فيلم Greyhound: تجربة سينمائية مبتورة الأطراف
عندما نجد شعار Apple على أي عمل فني ينتمي إلى خدمة Apple TV الخاصة بها، فبالطبع نتوقع تقديم عمل فني من الطراز الرفيع، بميزانية ضخمة. لكن بالنسبة لفيلم Greyhound من إنتاج 2020، الميزانية 50 مليون دولار فقط، والتجربة الفنية مبتورة الأطراف بدون شك.
الفيلم الذي رفع التوقعات لعنان السماء، تهشّم أسفلها. يُعتبر واحدًا من أوائل أعمال أبل في هذا المضمار، لكن يبدو أنها خسرت الرهان هذه المرة. فهل ستكون تلك السقطة نهاية الجودة السينمائية في خدمة أثبتت جدارتها في مضمار المسلسلات المُتلفزة؟ هذا ما سنحاول الإجابه عنه في هذه المراجعة الخالية من الحرق تمامًا.
تتحدث القصة عن القائد البحري إرنست كراوز، والذي حصل على رتبة قائد منذ فترة قريبة جدًا. لكن وبينما هو يحتفل بذلك مع مديرته (وكذلك حبيبته) السيدة إيفيلين؛ يُدرك أنها جعلته بالفعل قائدًا لأسطول هجين مهمته هي إيصال مجموعة بضائع وسلع هامة إلى قوّات الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية. والأسطول الهجين هو مزيج بين السفن الحربية وسفن نقل البضائع.
إرنست هو قائد سفينة (غراي هاوند) الأشهر من نار على علم في البحرية الأمريكية، ومهمته هي قيادة مجموعة سفن حربية أخرى، بهدف حماية سفن البضائع، إلى أن تستلمها القوّات البريطانية على الناحية الأخرى من المحيط، لتُكمل الرحلة إلى وجهتها الأخيرة. هذه هي المهمة الأولى له في منصب قائد أسطول، ولذلك نجد القلق يساوره من حين لآخر أثناء تصاعد الأحداث.
لكن هذه حرب، والحروب لا تخلو من المخاطر. فالعقبة الكُبرى في المهمة هي المرور بالأسطول بسلام عبر منطقة (البؤرة السوداء) في المحيط الأطلسي، والتي هي بقعة مائية لا تسمح بوجود غطاء جوي يحمي الأسطول من الأعلى. فبالتالي إذا فشل القائد في حماية أسطوله بقدراته على المناورة والقتال، سوف يكون صيدًا سهلًا للغواصات الألمانية التي تتربص به أسفل المياه. فهل سينجح إرسنت في مهمته الأولى ذات الأحمال الثقيلة؟ هذا ما ستعرفوه عند مشاهدة الفيلم.
والجدير بالذكر أن السيناريو هنا من كتابة توم هانكس نفسه، أي أنه يعلم بالضبط فنيّات الشخصية الرئيسية التي كتبها لنفسه، مما يجعل التجربة التمثيلية أمام الشاشة مفصلة عليه تفصيلًا.
في الواقع، القصة ببساطة هي قصة تحبها لتكرهها.
القصة مليئة بالأجواء المتسارعة للغاية، السيناريو يقفز بك من مشهد إلى مشهد بسرعة مهولة، وتجربة تجسيد السيناريو كانت تجربة أنفاس متلاحقة دون أدنى شك. وساعد على دعم تسارع السيناريو، تسارع الأسلوب الإخراجي كذلك. لكن هذه نقطة سنتطرق إليها لاحقًا.
ومن الناحية الأخرى، تسارع السيناريو كان موجودًا لإخفاء عيوبه في الأساس. النصّ مليء بالثغرات الفنية، لكن لن تُلاحظ إلا من قِبل مشاهد قد عاصر بالفعل أكثر من فيلم عن أجواء الحروب. ولذلك دعونا نتحدث عن إيجابيات وسلبيات القصة، بطريقة حيادية بعض الشيء.
التسارع القاتل
أفلام الحروب نوعان، إما أفلام بطيئة تُشعرك بهول ما يحدث، أو أفلام سريعة تجعل الأدرنالين مضخوخًا في عروقك طوال فترة المشاهدة. لكن في الواقع السينمائي، هذان النوعان ليس لهما ثقل درامي بالنسبة لصناعة السينما. فالذكاء هو صنع فيلم سريع، وفي نفس الوقت يسلط الضوء على الشخصية، بمشاهد متباطئة تُظهر تخبطاتها العمل الفني. تسارع القصة لم يكن في صالح إظهار تأثير الأجواء على أبطال العمل، خصوصًا شخصية القائد ذاته.
تسارع الفيلم ظهر في الأوامر التي تُلقى يمينًا ويسارًا على الدوام، دون وجود فرصة لتدارك ما يحدث فعليًّا. بجانب أن عدم إظهار لحظات التوجس والخوف، كان سقطة كبيرة لهذا الفيلم. بينما كانت شخصية البطل هي الوحيدة التي تشعر بثقل الحرب على روحها. هذا جعلها معزولة في عين المُشاهد عن باقي الشخصيات، وفي أفلام الحروب؛ يجب أن تكون جميع الشخصيات هي شخصيات رئيسية.
تضخيم غير مفيد للبطل
توم هانكس حرص بشدة أن يُعطي أكبر مساحة بصرية لشخصيته على الشاشة، وهذا ما حدث بالفعل. لكن للأسف، بالرغم من استحواذه على الكاميرا بنسبة كبيرة، إلا أن ذلك الاستحواذ لم يكن في صالح تأثير الشخصية على المُشاهِد. استحواذ هانكس ظهر في وجود شخصيته بهيئة آمرة على الدوام، وحنونة في بعض الأحيان. وهذا لم يُوظف في صالح إعطاء هانكس الوقت اللازم لإبراز قدراته التمثيلية أمام العدسة.
وما النتيجة؟
أجل، بالضبط، مشاهد لا نرى فيها إلا عيون هانكس لثوانٍ معدودة، دون الشعور بتأثيره علينا فعلًا كمشاهدين. الذين يعرفون هانكس منذ سنين وسنين، يعرفون أنه مثل روبرت دي نيرو، عبقريته في عيونه وتعبيرات وجهه. مشاهده النفسية كانت مبتورة للغاية. فحتى الشخصيات ذات نصيب الأسد في السيناريو، لم تكن مؤثرة نفسيًّا في فيلم حرب من المفترض أن يقوم في الأساس على مبدأ تسخير البيئة لإبراز الحالة الشعورية للأبطال.
سطحية للغاية، وسقطات الشخصيات كلها مقترنة بسقطات السيناريو. فماذا نتوقع من سيناريو تهميشي لأغلب شخصيات إلا البطل؟ بالطبع حبكة يظهر فيها البطل فقط كملك متوج، بينما كل الشخصيات من حوله عبيد ينفذون الأوامر فحسب. وبالرغم من قساوة التشبيه وعدم توافقه مع طبيعة شخصية هانكس في الفيلم؛ إلا أنه الأنسب.
لم تكن هناك فرصة للكاميرا لإبراز الشخصيات الأخرى على الإطلاق. إذا قررت أبل فقط أن تكون مدة الفيلم أكثر من ساعتين، لاستطاع هانكس بالطبع كتابة سيناريو أكثر رزانة ونضوجًا.
سيناريو فعلًا يجعل الحالات الشعورية المتضاربة تطفو على السطح، وتُبرز أننا بحق في قلب حرب تدور رحاها على أكثر من جبهة. ومن المتوقع جدًا أن يغرق الأسطول كله على يد قوات العدو، وأن تكون النهاية مأساوية للغاية. لكن هذا للأسف؛ لم يحدث.
حسنًا، هنا لنا وقفة بدون شك.
تمثيل توم هانكس لا غبار عليه بالطبع، لكن ظهوره ككاريزما طاغية اعتدنا عليها سابقًا، لم يكن ملحوظًا بسبب تسارع القصة. وإذا تركنا هانكس جانبًا، سنرى أن هناك ممثلًا آخرًا أظهر براعة شديدة، ولما لا وهو قد مثل بالفعل أمام ألباتشينو في The Irishman من إنتاج نيتفليكس؟
ستيفن غراهام ظهر بدور مساعد القائد العام للأسطول، وبالفعل أثبت موهبته أكثر وأكثر مع تصاعد الأحداث. فمن وجهة نظر فنية، الدور ليس مركبًا مثل دوره في The Irishman، لكنه يحتاج إلى ثبات انفعالي جبّار لحفظ نفس أسلوب التمثيل على مدار الفيلم. شخصيته مطلوب منها إظهار الانضباط العسكري، وتعويض الجانب الطيّب في قائدها. حفاظ ستيفن على هذا الانضباط طوال الأحداث، فعلًا يستحق الثناء. فالإبقاء على أسلوب تمثيلي واحد في فيلم كبير أمام توم هانكس، هذه مهمة صعبة فعلًا.
بينما تمثيل باقي طاقم العمل متواضع للغاية، لأن القصة لم تسمح للمخرج بإبراز قدرات أي ممثل إلا هانكس والمقربين منه على كل حال.
الفيلم من إخراج آرون شنايدر، وقدم تجربة بصرية جيدة فعلًا. لكن الميزانية لم تسمح له بتجريب أكثر من أسلوب إخراجي، ويبدو أن أبل طلبت منه الإسراع في إصدار الفيلم. وهذا ظهر في المشاهد مبتورة النهايات، وعدم استعمال الكادرات القريبة إلا نادرًا.
بينما الكادرات القريبة هي الأنسب دائمًا وأبدًا للأفلام الحربية، حيث تُظهر الحالة النفسية للشخصية من خلال حركات العيون وعضلات الوجه وحتى لعق الشفاه بينما العرق ينبت من بين الخلايا باستمرار، كمضخّة عاطلة الغالق.
كما أنه هنا يجب لفت النظر إلى شيء هام جدًا: التجربة البصرية لم تكن متناسقة في أغلب المشاهد. بمعنى أن الأمواج متلاطمة في البحر، والحرب في أوجها، لماذا لا يوجد رذاذ ماء على وجه هانكس؟ في الواقع، لم تظهر التأثيرات البيئية على الشخصيات إلا متأخرًا جدًا في الخط الزمني للفيلم. والجدير بالذكر أن هناك اختلاف واضح في بعض المشاهد بالنسبة إلى توزيع نسب الإضاءة. ذلك الاختلاف أظهر للمُشاهد صاحب النظرة الفاحصة، أن المشهد مُصور في غرفة مغلقة بكروما خضراء، ومُركب على خلفية مأخوذة من قلب المحيط الأطلسي. وهذا ضرب واقعية الفيلم في مقتل.
هنا يبدأ الفيلم أخيرًا في إظهار جماله. المقطوعات الموسيقية المستخدمة في الفيلم تعكس لمسة أبل الفنية في منتجاتها. الموسيقى اعتمدت على تبسيط النوتات والألحان، وتعميقها من حيث التردد والصدى. ذلك عزز الحالة الشعورية للأجواء الحربية، وناسب التسارع جدًا. لذلك الموسيقى نقطة إيجابية تُحسب للفيلم، وربما هي العنصر الأكثر جذبًا فيه كعمل فني من المفترض أن يكون متكاملًا.
الخلاصة : فيلم Greyhound كان يمكن لأبل أن تصنعه بشكلٍ أفضل. الميزانية المحدودة جعلت القصة محدودة، الإخراج محدودًا، والتجربة السينمائية ككل محدودة للغاية. اعتمدت أبل على الثقل الفني لتوم هانكس، لكن لم تهتم بأي شيء آخر. وهذا جعل الفيلم هزيلًا في عين الناقد، متوسطًا في عين المُشاهد المتمرس، وخارقًا في عين المشاهد حديث العهد بسينما الحروب.