فيروز… ضيعانو العمر من دونك
رفعت محمد
يقول بوشكين: «هل سمعتَ في الغابة الكثيفة، مطربَ الحبّ يغنّي حزنه؟ هل رأيته يبتسم؟
شاهدتَ دموعه، نظراته الحنونة التي أثخنها الألم؟“. فيرد أنسي الحاج: “هل صادفتَ شاعرة الصوت في الغابة الصاخبة؟ هل رأيتها برباطة جأشها وسط بحر المآسي؟ هل رأيتَ السلام؟ هل رأيتَ نجوم عينيها تدمع وغناءها ينشر ملائكة الإغاثة؟ هل تنفّستَ الصعداء وصدّقتَ أن الصوت هو الجواب؟ وما من جواب سواه إلّا أصداؤه.” إنها فيروز؛ الغائبة الحاضرة، لا تشرق شمس صباحاتنا إلا من صوتها، ولا يكتمل معنى الوجود إلا بحضورها، يطل عيدها وسط أمواج القلق التي يشهدها لبنان والدول العربية ليكون جسر لقاء وحبّ يبعث الأمل والحنين في داخلنا تماماً كصوتها «الإلهي» الذي يهدهد تعبنا، ويمسد برقته رؤوسنا التي أثقلها التفكير بمصير مجهول.
“وسع البحر وبعد السما” أحببنا جارة القمر، ونصبناها سفيرتنا إلى النجوم، غنتّ طفولتنا وأفراحنا وأحزاننا، ومهما أضأنا في عيدها شموعا لن تكون بعدد الشموع التي أضاءتها طيلة مسيرتها للعشّاق، للحب، للحريّة وللوطن.. ولن تكون المعادل للفرح والجمال اللذين زرعتها في نفوسنا فقاومنا بهما البشاعة التي ملأت أوطاننا، ألم تكن “الأغنية التي تنسى دائماً أن تكبر… ألم تجعل الصحراء أصغر و القمر أكبر“، في حياتنا لا مكان لفيروز، كل المكان هو لفيروز.
أحببناها في هالة التي أغوت الملك، وماريا التي سوسحت القبطان والبحرية، وبنت الحارس، وزيّون التي انتصرت للحب في ميس الريم، وناطورة المفاتيح التي أبت أن تفارق وطنها حين أرهب الظلم الجميع، عشقناها في لولو السويعاتية، ووردة التي حولت وهم المحطة إلى حلم، وفي غربة التي أحيت الأمل في أهل جبال الصوان بغلبة الحق ولو بعد حين، جمعت اللبنانيين على حبها ومحبتها حين مزقتهم الحرب، وأبت الرحيل انتصارا للحب.
من الظلم ألا نستذكر فيروز إلا في عيدها ، وهي التي تعمدنا بصوتها كل صباح، فتغسل خطايانا. كيف لا تغوينا الكتابة عنها كل يوم، وهي التي تماهى صوتها في رسائل عشقنا، جامعا المتناقضات، عصيا على ترويض الاعتياد، يتسرب إلى أرواحنا كضوع الياسمين، كترنيمة صلاة، وكمسحة أم على رؤوسنا المحمومة، صوتها الذي يتسلل إلى نفوسنا صباحا ومساء فيشعل الحنين والذكريات، حتى غدا جزءاً من ذاكرتنا الجماعية ونسيجنا الاجتماعي والتراثي والوطني.
يأخذنا صوت فيروز إلى حيث يريد، ومَن شبَّ على حلمٍ شاب عليه. حارت الأفكار فيها فهي تارةً لغز وطوراً بساطة. لها أبواب وليس لها وجوه، وقد حارت بها التأويلات، تتوارى فتترك مكانها غلالة تُعذّب مستنطق اللغز. كنز مسحور «كائنٌ غريب مُغْلَق في محيطٍ يحبّها ولا يشبهها“. حلم يقظة وضّاح ورؤيا منامٍ صاحٍ. غناؤها لا يتشنّج، أغلبه هَمْس. بوحٌ من حنجرةٍ إلى وجدان. دفءٌ غامر بلا لَهَب التظاهر. هو لَهَبُ السكوت. صوتُ ماسٍ مائيّ. عنوان فيروز هو السريّة، وسريّتها سليقة. فيروز سرّ يهوى غموضه، وليس في هذه السريّة ذرّة من الاصطناع. سريّة مخلوقة، تنسج ستائرها طبيعيّاً كما تنسج الأمّ أمومتها.
يقول أنسي الحاج وهو القريب القريب منها: “يتطلّع إليك من صوتها أولئك الذين قسوتَ عليهم، أسأتَ إليهم، ينظرون إليك غافرين. يزورك من صوتها مَن لم يعرف أن يدافع عن نفسه، مَن لم يجد صديقاً، مَن نام على دموعه. يزورك المحروم وكرامته. يزورك الطفل الذي لم يتعلّم بعد أن يمشي، لكنّه يطير…“، فنطلق تنهيدة ونحن نردد… ضيعانو العمر من دونك.