فرنسا تمسح ماضيها الأسود في رواندا
فرنسا تسعى إلى طيّ الصفحة مع الحكومة الرواندية ونسيان الماضي من دون النظر إلى الوراء.
إدريس الكنبوري
بعد قرابة ربع قرن على مذابح رواندا بين القبيلتين الأكبر في البلاد، الهوتو والتوتسي، تسعى فرنسا اليوم إلى طيّ الصفحة مع الحكومة الرواندية ونسيان الماضي من دون النظر إلى الوراء. وتقاوم باريس اتهامات خطيرة بتورطها في تلك المذابح عام 1994، صادرة عن جهات داخل فرنسا وفي رواندا نفسها، بل في أفريقيا عموما، لكنها تريد التغطية على تلك المرحلة عبر مصالحة دبلوماسية مع كيغالي، وهو ما حصل عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا الأسبوع خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الرواندي بول كاغامي لباريس، هي الأولى من نوعها له منذ العام 2011.
ماكرون قدّم هدية إلى كاغامي، تمثّلت في إعلانه دعم ترشح رواندا لتولّي الأمانة العامة للمنظمة الدولية للفرانكوفونية، في ما يبدو أنه صفقة سياسية تمتنع بموجبها الحكومة الرواندية عن إثارة مسؤولية فرنسا في المذابح، مقابل دعم فرنسي في ملفات متعددة. واتضح هذا الموقف من خلال سكوت الرئيس الرواندي، أثناء زيارته لباريس، عن الحديث في الموضوع أمام الصحافيين الفرنسيين، بالرغم من أن كاغامي ظل طيلة السنوات الماضية يثير الحديث عن تورط الحكومة الفرنسية في عهد الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران عام 1994 في المذابح التي راح ضحيتها ما يناهز المليون شخص من أقلية التوتسي على أيدي قوات الجيش الرواندي الذي كان يتشكل من غالبية الهوتو، حسب أرقام الأمم المتحدة.
وأدّى الحديث عن تورط الحكومة الفرنسية في أحداث الإبادة إلى تجميد العلاقات بين البلدين منذ أن بدأت إثارة الموضوع قبل نحو عشر سنوات، حين حمّل الرئيس الرواندي فرنسا مسؤولية ما حصل واتهمها بالتواطؤ مع حكومة كيغالي من قبيلة الهوتو.
ولا تتوفر باريس اليوم على تمثيل دبلوماسي لها في رواندا، كما لم يثر الرئيس الفرنسي ماكرون هذا الموضوع في لقائه مع نظيره الرواندي، ولكن مبادرته بدعم رواندا في المنظمة الدولية للفرانكوفونية يرى فيه الكثيرون خطوة أولى نحو إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية المقطوعة. وبالنسبة إلى فرنسا، فإن تقوية العلاقات مع رواندا التي نجحت في تخطي الماضي والتصالح مع الذاكرة الجماعية عنصر أساسي في السياسة الأفريقية الجديدة التي يقودها ماكرون في مواجهة التحديات الأمنية في منطقة الساحل والقرن الأفريقي.
وقد طفت على السطح مسؤولية باريس في المذبحة في شهر أبريل الماضي، بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لتلك الأحداث، عندما نشر ضابط سابق في الجيش الفرنسي، هو غيوم أنسيل، كتابا تحت عنوان “رواندا، نهاية الصمت”، تحدث فيه كشاهد عيان قضى خمسين يوما ضمن البعثة العسكرية الفرنسية في كيغالي، التي كانت تسمى “عملية توركواز”. واتهم أنسيل باريس بالتورط في الإبادة الجماعية التي طالت قبيلة التوتسي، ودعم حزب الجبهة الوطنية الرواندية الذي كان يقود البلاد وقتها، وتسليح منفذي المجازر، بل ولعب دور في عدم تقديم الجناة أمام العدالة.
وكشف أنسيل في شهادته أن باريس لم تضع الجنود الفرنسيين الذين أرسلتهم إلى رواندا في الصورة الحقيقية للأوضاع في البلاد، وهو ما يخالف الأعراف الجارية في الجيش الفرنسي، حسب تعبيره، بل اكتفت بتذكيرهم بأنهم ذاهبون في مهمة إنسانية، لكنهم اكتشفوا خلال وجودهم هناك أن التعليمات العسكرية التي كانت تعطى لهم كان الهدف الخفي منها هو الحيلولة دون سقوط الحكومة التي كانت تقودها الجبهة الوطنية الرواندية، ومنع انتصار أقلية التوتسي، وهو ما يعني -حسب إفادته- السماح باستمرار المجازر.
وقد عملت الحكومة الفرنسية السابقة عام 2015، في عهد فرانسوا هولاند، على رفع السرية عن الملفات والوثائق الخاصة بالدور الفرنسي في أحداث رواندا، ولكن الولوج إلى تلك الوثائق يظل حتى اليوم ممنوعا بسبب القيود القانونية والإدارية رغم القرار السياسي الذي اتخذه هولاند، إذ رفضت الحكومة الفرنسية في وقت سابق السماح لبعض الباحثين الفرنسيين، كفرانسوا غرانر مؤلف كتاب “السيف والساطور” عن تلك الأحداث، بالاطلاع على تلك الوثائق. وقبل فترة وقّع ثلاثة آلاف مواطن فرنسي، بعضهم من أصول رواندية، عريضة وُجهت إلى ماكرون يطالبون فيها بفتح الأرشيفات السرية المتعلقة بتلك المرحلة، لكن دون تجاوب من الحكومة الفرنسية.