فرط الوحدة خطر كفرط الانقسام
سالم العوكلي
في وقت الأزمات السياسية وما يترتب عنها من اختلالات اجتماعية تثار مسألة الهوية بشدة، باعتبارها تشكل مرتكزا ماضويا لآليات الصراع المستقبلية وفق مصالح الفئات التي تستسلم لثنائية المركزية والتهميش.
الهوية مفهوم مازال يعاني من التباس رغم مضغه المستمر وتقليبه الفكري على كل الأوجه، ويتطلب أي مفهوم أو مصطلح الكثير من العناية حين يساء استخدامه. لذلك أحب أن استخدم مصطلح الثقافة رغم ما يحيط بمفهوم الثقافة من التباس وخلط بين تعريفاتها المتشعبة، لكني ساتبنى هنا مفهوم الثقافة وفق تعريف منظمة اليونيسكو المنبثق عن مؤتمر مكسيكو 1982: “جميع السمات الروحية, والمادية, والفكرية, والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه, أو فئة اجتماعية بعينها, وتشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، والحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات.
والثقافة هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته, وتجعل منه كائناً يتميز بالإنسانية المتمثلة بالعقلانية, والقدرة على النقد, والالتزام الأخلاقي, وعن طريقها يهتدي إلى القيم ويمارس الاختيار, وهي وسيلة الإنسان للتعبير عن نفسه, والتعرف على ذاته كمشروع غير مكتمل وإعادة النظر في إنجازاته, والبحث عن مدلولات جديدة, وإبداع أعمال يتفوق فيها على نفسه”.
بقدر ما كان مفهوم الهوية مشوشا وغير ممأسس وخاضع للمزاج أو التلاعب الطائفي أو السياسي ومدعاة للتعصب أو الانفصال أو الانقسام، فإن الثقافة حسب التعريف الإجرائي السابق تمأسست، وعينت لها طواقم إدارية رصدت لها ميزانيات وشكلت فضاء للحوار أو ما يسمى التثاقف، وأطلقت فيها مشاريع وبرامج وخطط وفق مكوناتها المختلفة، الغاية منها التعريف أو التقريب بين الثقافات على مستوى القطر المتعدد الثقافات، أو على مستوى الأمم. بهذا المعنى ليست الثقافة رافدا من روافد الهوية، كما هي مطروحة هنا، لكنها بديل إجرائي لمفهوم الهوية الملتبس، بمعنى الثقافة جسد للهوية المجردة وليس عاملا مؤثرا فيها؟
البحث في هوية أو شخصية المجتمع شأن يحكمه عادة منطلق غائي يسعى إلى عضد للهوية السياسية وفق ما يستدعيه من شواهد على وحدة الثقافة، وبقدر ما هو منطلق حسن النية إلا أنه يضرب التعددية الثقافية في مقتل، لأن الثقافة لا يمكن أن تنمو إلا وفق التنوع؛ بمعنى أن الهوية مطلب سياسي في الغالب، بينما الثقافة غاية حضارية. أو بمعنى آخر؛ التعدد الثقافي تأويل ديمقراطي للهوية، واختلاف الهويات تفسير استبدادي للثقافة.
في سنوات ما بعد فبراير التي أطلق فيها سراح المكبوت الليبي ووظفته وسائل الإعلام الموجهة لخدمة مصالح فئات مختلفة، انقسم الجدل بين من يبالغون التأكيد على الوحدة الوطنية، وبين من يبالغون في الدفاع عن إثنياتهم أو أقاليمهم أو جهاتهم.
وفي الحالين ثمة مصادرة مبالغ فيها لمفهوم التنوع داخل المجتمع الواحد الذي ربطته مصالح واحدة ضمن حدود سياسية معترف بها. جل هذا الجدل ينطلق من مقومات بعيدة عن مفهومي الثقافة والتنوع ويذهب إلى مقومات اقتصادية أو جهوية ضيقة، أو عاطفية، أو رهاب من المركزية، وهي مقومات ترتكز على مخاوف حدثت في الماضي دون أن تنظر إلى إمكانية إصلاحها أو تجاوزها في المستقبل.
إنها مقومات متعلقة بكيفية إدارة المجتمع وفق تنوعه وتبادل مصالحه تزاح إلى منطقة التعصب ودغدغة العواطف، وغالبا من أجل مصالح أشخاص يرغبون في الوصول إلى السلطة.
وفي مجتمع تغيب فيه القنوات الحديثة من أجل هذا الوصول، كالأحزاب والعمل النقابي والمدني، لا بديل إلا خلق كيانات متوهمة أو حقيقية ، إقليمية أو إثنية أو دينية أو قبلية، دون النظر إلى مشتركها الثقافي الذي يقرب بينها من جهة، وتنوعها الثقافي الذي يجعلها مصدر ثراء حضاري، بل وثراء تنموي لمن يفكرون بعقل استثماري.
يقول تي إس إليوت في كتابه (ملاحظات نحو تعريف الثقافة) ترجمة د. شكري محمد عياد: “لكي تزدهر ثقافة شعب ما ينبغي أن لا يكون شديد الاتحاد ولا شديد الانقسام. فرط الوحدة قد يكون ناشئا عن الهمجية وقد يؤدي إلى الاستبداد، وفرط الانقسام قد يكون ناشئا عن التحلل وقد يؤدي إلى الاستبداد أيضا. وكلا الطرفين يعوق اطراد النمو في الثقافة.”
النتيجة المتوقعة للتطرف في الاتجاهين سيطرة غرائز مثل التعصب والعنصرية وإقصاء المختلف، وفي الحالتين ثمة أرضية لبناء منظومات الاستبداد السياسي الذي كثيرا ما يستثمر هذه الغرائز لمشاريعه الإقصائية. الاتحاد أو فرط الوحدة في ألمانيا أنتج النازية، وفي إيطاليا أفضى إلى الفاشية؛ وفرط الانقسام في يوغوسلافيا أنتج الأوليجاركية (حكم الأقلية) التي كانت وراء الحرب الأهلية ومجازر الإبادة العرقية والدينية. المجتمع أو بالأحرى القطر الذي تصل فيه الانقسامات حدا كبيرا خطر على نفسه، والبلد الموحد أكثر مما ينبغي خطر على غيره.
شهدت ليبيا في ظل خطاب التعصب الوحدوي القومي، خلال العقود السابقة، نوعا حادا من إقصاء التنوع والاختلاف شكل أرضية لبناء دولة الاستبداد ومنطلقا لتشكيل الخطر على الغير خلف الحدود أو في القارات الأخرى، وأدى هذا النزوع العنصري في النهاية إلى إقصاء مكونات المجتمع الثقافية، بل أدى إلى توظيف بحاث في التاريخ من أجل تحريف الحقائق لصالح أحد مكونات المجتمع الليبي عبر التعريب القسري للإثنيات الأخرى.
التسليم بحقيقة التنوع الثقافي في ليبيا وبحقيقة الوعاء التاريخي والجغرافي الذي تفاعل فيه هذا التنوع مهم مبدئيا لطرح أسئلة تتعلق بالهوية أو الشخصية أو التعايش، لأن إنكارها مضر بقدر ضرر الغلو في طرحها. والتنوع المقصود هنا هو ذلك الذي تحكمه مؤثرات مختلفة تتعلق بالطبيعة الحاضنة أو طرق كسب العيش، أو الإثنية، أو الجذور الأصلية، أو ثقافات دول الجوار المتاخمة.
من جانب آخر، هذا الاعتراف بالتنوع الثقافي أو حتى اللغوي ضاغط نحو التوجه إلى دولة مدنية ديمقراطية يمكن أن تحافظ على هذا التنوع على أرضية دستورية وقانونية تحفظ حق المواطنة، متحاشية تعصب القوم الذي يتغنى بالوحدة الوطنية مستخدما الاستبداد أو دولة الإكراه للحفاظ عليها، ومتحاشية الفكرة المضادة التي تتلاعب بالهوية سعيا لتحلل المجتمع المتنوع وانقساماته الحادة. وفي كلتا الحالتين كما سلف، الخيارات إما فاشية وطنية تسعى للتشابه بشكل قسري، أو أوليجاركية تسعى لهيمنة ثقافة أو هوية على سائر الثقافات أو الهويات الأخرى.