فتش عن الفساد
سالم العوكلي
بتاريخ 28 يونيو 2017 ، نشرت مقالة في موقع قناة 218، تحت عنوان (رسالة إلى غسان سلامة: هل ستنتهي الأزمة الليبية بسلامة؟) حيث كُلف السيد غسان قبلها بأيام بمهمة مبعوث أممي في ليبيا بتاريخ 17 يونيو 2017 ، واحتوت هذه المقالة بعض ما كنت أراه أولويات في سبيل خلخلة هذه الأزمة وحلها (ملاحظات كتبتها كمواطن اهتم بالشأن الليبي منذ بداية الكتابة والنشر في ثمانينيات القرن الماضي ومن خلال الإطلاع على تاريخ وجغرافيا هذه الإقليم وتاريخ صراعاته، وجاءت كلها في إطار الاجتهاد الشخصي). ما يجعلني أعود لهذه الرسالة المتغيرات الجديدة في الملف الليبي، والحوارات التي تحدث في عدة مدن وضواحي بين الأجسام السياسية والعسكرية والأمنية؛ والتي تسعى في مجملها لتوحيد المؤسسات، وتقريب وجهات النظر، والتخطيط لمرحلة انتقالية (خامسة!!)، خصوصا أن المجتمع الدولي بدأ يُظهر اهتماما جديا من أجل حل هذه الأزمة التي أصبحت تشكل خطرا على دول الجوار جنوب وشمال المتوسط بعد وصول عشرات الآلاف من المرتزقة عن طريق تركيا، وبينهم الآلاف من الإرهابيين من جنسيات مختلفة.
كثير من الملاحظات أبديتها في تلك الرسالة، ولكن أهمها هو اقتراح الفصل بين المسارات في المفاوضات بين الأطراف المتنازعة، واقترحت أربعة مسارات متوازية: المسار السياسي والمسار العسكري والمسار الاقتصادي والمسار الاجتماعي. ورغم صعوبة الفصل بين هذه المسارات إلا أن التعامل معها كل على حدة سوف يقلص من فرص تشويش بعضها على البعض الآخر.
المسار السياسي بين الأجسام السياسية المنقسمة (ما انبثق منها عن الشرعية الانتخابية أو انبثق عن سياسة الأمر الواقع). ومسار عسكري يسعى لتوحيد المؤسسة العسكرية وحل المشكلة الأمنية، ويبعد العسكريين عن التدخل في المحور السياسي. ومسار اقتصادي يتعلق بإنعاش الحركة الاقتصادية، والتوزيع العادل للثروة، وكبح الفساد المتفشي. أما المسار الاجتماعي، والأكثر أهمية، فيتعلق برسم خطة للمصالحة (الوطنية) التي بدونها لن يتقدم أي مسار آخر، ويتكفل به مجلس أعيان ومشايخ وحكماء ليبيا. وبهذا المعنى هي مسارات متصلة لكن التعامل معها منهجيا بشكل منفصل يعد بتقدم فيها جميعا، ولكن يبدو أن مبعوث الأمم المتحدة تصادم مع رواسب الجماهيرية السابقة التي تركت خلفها فوضى عارمة حيث لا حدود بين الاختصاصات أو المسارات، اختلط فيها الحابل بالنابل، والسياسي بالعسكري بالديني بالثقافي بالاجتماعي، واختلطت فيها السلطات التي يتحكم فيها مزاج شخص واحد جعل من أمن النظام متن أربعة عقود وجعل من الفوضى التشريعية والإدارية والقانونية وصفته للاستمرار في السلطة. ولهذا السبب استمر الخلط بين هذه المسارات في جميع المبادرات، وتشابكت ككتلة أسلاك شائكة يصعب فصلها أو فكها، وانخرط العسكريون في المفاوضات السياسية، والسياسيون في إدارة المحاور العسكرية وتشكيل الميليشيات المسلحة التابعة لبعضهم، وتحول المصرف المركزي وإيراد النفط إلى ممول رسمي لكل هذه الصراعات، مع فشل كل ما اقترحته مندوبية الأمم المتحدة من إصلاحات اقتصادية بسبب تفشي الفساد وتحكم الميليشيات الخارجة عن القانون في كل مفاصل الدولة ومراكز المال في العاصمة. ومع أن المصالحة الوطنية هي الأولوية والأرضية التي يجب أن تبنى عليها كل الخطوات الأخرى إلا أنها اختفت كمفردة من كل المبادرات التالية، وحتى من وسائل الإعلام، ومن أدبيات التعبير عن الأزمة الليبية.
أقول مجازا المصالحة الوطنية ولكن سبق أن كتبت العام 2012 عن استبدال هذه المصطلح بمصطلح (المصالحة الاجتماعية) لأن ليبيا ليس فيها قوى سياسية راسخة أو مذاهب أو أعراق متناحرة، لكن لكثير من النزاعات (خصوصا في المنطقة الغربية) رواسب اجتماعية قديمة مازالت تستيقظ كلما تفككت السلطة المركزية القاهرة، وهي نزاعات فرضت على بعض المدن والقبائل أن تكون لها ميليشيات تحميها، وأن تُستغل من قبل الأطراف السياسية في حالة الاستقطاب الحادة، وتوظف في الصراع السياسي كما وظفتها سلطات خارجية ومحلية على مدى قرون سابقة.
لعل القرار رقم 7 الذي اتخذته أول سلطة تشريعية منتخبة بعد سقوط النظام، وأباح لميليشيات مدينة ليبية أن تغزو مدينة ليبية أخرى لتصفية حسابات اجتماعية عمرها أكثر من قرن يؤكد هذا الراسب التاريخي الذي يشكل خطرا على أي مشروع لبناء الدولة الديمقراطية، إضافة إلى ما حدث في تاورغاء وورشفانة من قتل وتخريب وحرق تهجير، والنزاعات المتكررة بين الزاوية وورشفانة، وما حدث في مدينة ترهونة أخيرا، وغيرها، يؤكد هذه المخاوف، وهي صراعات كثيرا ما تتخذ طرابلس العاصمة ميدانا لها باعتبارها مركز القرار والمال والمصالح، ومن هنا تأتي أهمية المصالحة الاجتماعية الشاملة في هذا الجزء من ليبيا، دون أن نغفل حل مشكلة النازحين من شرق ليبيا وجنوبها، والنازحين خارج ليبيا لأسباب مختلفة ترتبط بأسباب أيديولوجية (الإسلام السياسي) أو بتركة النظام السابق وقانون العزل السياسي.
توحيد المؤسسة العسكرية خطوة مهمة نحو تحقيق كل الأهداف الأخرى، وسبق لمصر أن استضافت لقاءات وحوارات مهمة بهذا الشأن، لكنها عُرقلت من قبل قوى إقليمية ومحلية، لكونها تقلص من دور الميليشيات التي تدعمها وتحقق مصالحها، ولكونها تقام في دولة تعتبرها منحازة لأحد الأطراف وهي مصر. وأدى هذا الفشل في توحيد المؤسسة العسكرية إلى مزيد من الحروب، ومزيد من دعم وتقوية الميليشيات التي أصبحت تتمتع بقوة بشرية مستوردة وترسانة أسلحة فتاكة، ما يجعلها ستشكل عقبة أمام أي تقارب ليبي ليبي، لأن فكرة بناء الدولة، أو احتكار السلاح من قبل قوة عسكرية رسمية واحدة، أو تشكيل حكومة وطنية واحدة أينما كان مقرها، أو أي مشروع لمكافحة الفساد كما طالبت المظاهرات الأخيرة في كثير من المدن الليبية بعد أن انطلقت من العاصمة طرابلس، كل هذا يشكل خطرا على هذه الميليشيات ونفوذها، وعلى بارونات الحرب الذين تحولوا إلى لوبيات خطيرة تتعامل مع لوبيات خارجية وقوى إقليمية ترى مصالحها جميعا في استمرار الأزمة وتحلل الدولة.
حاول غسان سلامة؛ الذي جاء إلى ليبيا متفائلا وغادرها متشائما، أن يخلخل كل هذه الصعوبات، لكنه وجد نفسه في مواجهة قوى خارجية، دولية وإقليمية، تأزم المشهد الليبي وتزيده انقساما، وليس مجرد قوى محلية فقط، وفي إطار مخرجات اتفاق سياسي فرض على الليبيين غصبا، ليضع في النهاية إصبعه على الجرح الليبي الغائر المحرك لكل هذه الحساسيات والصراعات، حين تحدث بصراحة عن الفساد كمشكلة أساسية؛ والذي سماه (النهب)، باعتباره تجاوز كل خبرته عن مفهوم الفساد المؤسسي كما يرد في التقارير الدولية، وتطرق إلى أن لديه أمثلة على هذا (النهب) سيذكرها يوما ما بالاسم، وقد ذكرت بعض تقارير المندوبية تفاصيل هذا النهب في ملفات سرية نشرت بعضها قناة 218 ، لكن غسان ذهب دون أن يأتي (اليوم ما) الذي يذكر فيه الفاسدين الكبار بالاسم. واكتفى في بعض الحوارات بقوله: “إن في ليبيا طبقة سياسية لديها مستوى عال من الفساد ومن التقاتل على الكيكة، وأنها لا تهتم بمواطنيها التعساء الفقراء في بلد غني”. وبعد عمل لمدة سنتين حدد سلامة طبيعة الصراع الليبي الذي لم يكن سياسيا ولا ايديولوجيا قائلا “أن الكثيرين متمسكون بمناصبهم لأنها تسمح لهم بنهب الثروة، وأنهم يستولون على المال العام ثم يهربونه للخارج، وأن الخلاف الحقيقي بين الليبيين هو على الثروة وليس تنازعا بين الأيديولوجيات”.
حدثت انقسامات في كل شأن ليبي إلا الفساد الذي ظل موحدا في كل أجزاء ليبيا، وفي كل حكوماتها، والفارق أن الفساد في الغرب كان بالمليارات وفي الشرق بالملايين كما أكدت تقارير دولية ومحلية متعددة، والسبب يكمن في مقدار المسافة التي تفصل كل فساد عن منبع المال في المصرف المركزي. سرقات بالمليارات في غرب ليبيا وبالملايين في شرقها بينما المواطنون يقضون ساعات طويلة كل ثلاثة أشهر للحصول على عشرات الدنانير من السيولة لا تكفيهم للمعيشة أسبوعا واحدا.
وسيكون هذا الفساد موضوع مقالتي التالية، طبيعته وجذوره ومحركاته، إضافة إلى الحديث عن الفساد الأصغر، المتعلق بقطاع واسع من المجتمع، فيما يخص الاعتداء على الأملاك العامة والخاصة، وعلى والغابات والشواطئ. وهو فساد شامل يحدث في غياب دولة القانون، ولا يختلف ضرره عن الفساد المباشر وسرقة المال العام، باعتبار تعريف السرقة أن تنهب ما لا تملكه ولا يخصك ولا حق لك فيه، سواء كان مالا عاما أو خاصا أو أرضا أو أشجارا تقطعها أو شواطئَ تسيجها أو كهرباء ومياها لا تدفع ثمنها.
الفاسد خارج عن القانون، والقانون تفرضه الدولة، لذلك فالفاسدون من المنطقي أن يكونوا ضد قيام الدولة أو حكم القانون. وهذا ما شخّصهُ غسان سلامة لحقيقة الأزمة الليبية، حيث يستغرب الجميع أما يحدث في ليبيا من نزاعات كونها لا صراع مذاهب أو أعراق أو أديان فيها، فلماذا هذه الانقسامات والحروب؟ والإجابة: فتش عن الفساد الذي تمت ترقيته في ليبيا إلى مرتبة النهب، والنهب سرقة سافرة لا تحتاج حتى إلى تخفي أو إحساس بالخجل، وصاحبه لا يعرف الشبع، وأمواله وسخة ولا تفكر حتى في الغسيل.