غزوة الانتخابات.. مآلات الوضع الليبي
أمين بن مسعود
كاتب ومحلل سياسي تونسي
مشهديات العراق وسوريا وفلسطين، تبرهن على أن الجماعات الإرهابية تراهن على الانقسام وتستثمره، كما أنها لن تدخر جهدا في الحيلولة دون المصالحات الوطنية.
“غزوة الانتخابات” تؤكد حتمية مسار التسوية
لا يزال تنظيم داعش موجودا في ليبيا، ولا يزال قادرا على استهداف المنشآت السيادية وعلى إلحاق الأضرار الجسيمة بالبشر والحجر.
صحيح أن الرسم البياني لأعماله الإرهابية في منطقة المغرب العربي في انحدار وتقهقر، حيث فقد في أكثر من مفصل جغرافي القدرة على الاستباق وتنفيذ هجمات منسقة، ولكن الصحيح أيضا أن الجماعات المتبقية في الجغرافيا الرخوة ما زالت تمتلك هامش مناورة يجعلها قادرة على استهداف بعض المؤسسات العمومية السياديّة.
التفجير الإرهابي الذي ضرب أول أمس الأربعاء مقر المفوضية العليا للانتخابات في العاصمة طرابلس، يستوجب وقفة متأملة في مآلات الوضع الليبي الراهن، لا سيما وأن استتباعات الحالة الليبية بإيجابياتها وسلبياتها ستتداعى على المحيط الإقليمي بشكل تلازمي.
لا نتقاطع مع الكثير من القراءات المحتفية بتحسن الأوضاع في ليبيا، والتي اعتبرت العملية الانتحارية بأنها عملية معزولة تعبر عن رقصة الديك الداعشي المذبوح من الوريد الشامي إلى الوريد الليبي.
نختلف مع هذه القراءة، ذلك أن الوضع في ليبيا مختلف بشكل كبير عن الأوضاع في المشرق العربي، لا فقط لأن دواعش ليبيا يمتلكون حديقة خلفية في الجنوب الليبي انطلاقا من سبها وصـولا إلى الحدود الليبية مع النيجر وتشاد حيث يتمتعون نسبيا بحرية التحرك، وإنما أيضا لأن المجموعات الإرهابية المتمركزة في عمق الساحل الأفريقي والتي عجزت القوات الفرنسية إلى حد اللحظة عن حسم النزاع معها، تمثل خزانا استراتيجيا للإرهابيين وصداعا لمنطقة شمال أفريقيا برمتها.
ولئن كان من حق الليبيين الاستبشار بعودة التمثيليات الدبلوماسية الأجنبية للعمل في العاصمة طرابلس، وعلى رأسها مكتب المبعوث الأممي غسان سلامة، بعد تطهير العديد من الأماكن في الجغرافيا الليبية، فإنه من واجبهم الحذر كل الحذر لأن أنصاف الدواعش لا يزالون يحافظون على ساق مع الإرهاب الداعشي وأخرى مع مسار التسوية.
إضافة إلى أن حالة التشرذم العسكري والأمني التي لا تزال تستحكم بالمشهدية السياسية والتي حولت فرص التسوية إلى محطات استعصاء بنيوي، تشكل بيضة القبان للجماعات الإرهابية بمختلف تسمياتها وعناوينها.
هزيمة الإرهاب لا تكون إلا بالتوافق والتشاركية وعدم الإقصاء، وهي عناوين لا بد أن تتكرس في الانتخابات والدستور والحوار الوطني، وإلا فإن لوثة الإرهاب والجماعات الإرهابية تترصد بالمسار والمسيرة، وتتربص بمستقبل ليبيا بعد أن أطاحت بحاضرها
فمشهديات العراق وسوريا وفلسطين المحتلة، تبرهن على أن الجماعات الإرهابية تراهن على الانقسام وتستثمره، وتوظف حروب الأجندات الإقليمية والدولية وتجيرها، كما أنها لن تدخر جهدا في الحيلولة دون المصالحات الوطنيّة، سواء بالتفجير أو بالتكفير.
وطالما أن الانتخابات هي جزء من منظومة الحل والتسوية السياسية في ليبيا، فإن تنظيم داعش لن يسمح باستكمالها على الوجه الذي يحول المشهدية في البلاد من نزاع متعدد الأطراف والأوجه، إلى صراع الكل الليبي ضد الإرهاب الداعشي والجماعات الموالية له.
ولئن ربطنا التصعيد في طرابلس، ببعض التقارير العسكرية والاستخباراتية الغربية التي تتحدث عن ارتفاع عناصر داعش ليبيا من غير العرب، إلى 600 عنصر حاليا بعد أن كانوا يعدون 150 فقط، فإن التفجير سيكون مؤشرا على مسار تصاعدي داعشي يستمد روافده من 3 مشارب أساسية.
الأول هو موسم هجرة المقاتلين من سوريا والعراق إلى ليبيا، والرافد الثاني يتمثل في الحدود الرخوة مع تشاد والنيجر، والرافد الثالث هو حالة الاقتتال الدائم والمستمر بين الميليشيات المنضوية ضمن المجلس الرئاسي برئاسة فايز السراج والمنوطة بها حماية العاصمة طرابلس والمؤسسات السياديّة.
كلما ابتعد المسار عن التسوية والسلام، كلما ازدادت فرضيات الاقتتال واستفحال الإرهاب الذي يتسرب تحت خيوط القبلية والطائفية والهويات المتناحرة كلّما أبصر ضعفا في الدولة وهوانا في سيادة القانون، واهتراء في مقولة المواطنة.
المفارقة في المشهدية الليبية اليوم، أن الإرهاب يقتنص كل فرصة للضرب بقوة ويهرول فوق الرمال المتحركة زاحفا على المدن والمحافظات الكبرى، فيما قطار التسوية بطيء ومصاب بأمراض الزعاماتية والتدخلات الأجنبية والحسابات الضيّقة.
صحيح أنّ “غزوة الانتخابات” تؤكد ضرورة إجراء الانتخابات وحتمية الانخراط في مسار التسوية، ولكن الأصح والأجدر بالتبني أن تكون الانتخابات محل مشاركة واسعة ومناط شرعية وطنية لا قدح فيها من أحد، وأن تفتح الباب لحوار وطني جامع بين كافة المحافظات وكافة التيارات السياسية في البلاد.
هزيمة الإرهاب لا تكون إلا بالتوافق والتشاركية وعدم الإقصاء، وهي عناوين لا بدّ أن تتكرس في الانتخابات والدستور والحوار الوطني، وإلا فإن لوثة الإرهاب والجماعات الإرهابية تترصد بالمسار والمسيرة، وتتربص بمستقبل ليبيا بعد أن أطاحت بحاضرها.