عِلمٌ جديد: الأرقام القياسية
داود الفرحان
في عام 1951، خرج المهندس البريطاني هيو بيفر، المدير الإداري لأحد المصانع في جنوب أفريقيا، مع أصدقائه في رحلة إلى آيرلندا لاصطياد الطيور. إلا أنه لم يستطع الفوز بأي طير من صنف «الزقزاق» الذهبي اللون. وأبلغ بيفر أصدقاءه بأن الطيور في أوروبا قد تكون أسرع من طيور القارات الأخرى. وراجع عدداً من المكتبات للحصول على كتاب يقدم له معلومات عن أسرع الطيور إلا أنه لم يعثر على ضالته؛ فقرر أن يؤلّف موسوعة للأرقام القياسية في مختلف المجالات أطلق عليها تسمية «موسوعة غينيس للأرقام القياسية». و«غينيس» لم يكن لقب هيو بيفر، لكنه كان اسم مصنع البيرة الذي كان يعمل فيه في جنوب أفريقيا!
وظهرت أول طبعة من الموسوعة في عام 1955 وهي اليوم من أشهر الموسوعات العالمية التي توزّع سنوياً آلاف النسخ. ولم تتأثر أهميتها برحيل مؤسسها في عام 1967 تاركاً مؤسسة عريقة ومتفردة وموثوقاً بها في المراكز العلمية والرياضية والإبداعية.
بعض القراء يعرفون هذه المعلومات وأكثر، لكن الجديد أن المؤسسة افتتحت في الأسبوع الماضي معرضاً في متحف «ساينس نورث» في مقاطعة سودبوري في أونتاريو بكندا لتدشين آفاق جديدة للأرقام القياسية عبر تحويلها إلى علم قائم بذاته يُسمى علم تحطيم الأرقام القياسية «The Science of Guinness World Records» وهذا المعرض هو الأول من نوعه، ويهدف إلى تثقيف الناس من جميع الأعمار حول العلوم الكامنة وراء محاولات تحطيم الأرقام القياسية العالمية.
يقول أحد المسؤولين في المعرض «إن الأطفال يستمتعون ويتعلمون في نفس الوقت، إذ يمكنهم أن يتعلموا كيف يستخدم هؤلاء الذين يحطمون الأرقام القياسية العلم ليصبحوا قياسيين فيما يفعلون، وهذا هو الأفضل في المجالين».
أول المستفيدين من الإنترنت في وسائلها المتعددة هم العاملون في قطاع الإعلام بكل شبكاته وقنواته وصحفه. كذلك فإن كاسري الأرقام القياسية هم أول المستفيدين، ليس في الشهرة والانفراد بالقمة فقط، وإنما في الإحساس الشخصي بالتفوق العلمي أيضاً بعد أن أضفت مؤسسة «غينيس» صفة العِلم على كل الأرقام القياسية. فرسالة المعرض الكندي هي أنه حتى لو لم تكن أنت الأفضل في العالم، فأنت الأفضل في عائلتك. وأحياناً لا بأس في ألا تكون الأفضل في العالم ما دمت أفضل قليلاً من أخيك الأكبر! وقد تبدو هذه الأفضليات خارج سياق أرقام «غينيس» القياسية كما أرادها مؤسسها هيو بيفر، لكنها تحفز كثيرين على تجربة حظوظهم وقدراتهم الشخصية في أي مجال يختارونه للتفوق والسبق.
كان من المنتظر أن يجذب المعرض حتى نهاية دورته الأولى في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، نحو عشرات الألوف من الزوار الذين قد يشارك بعضهم في تحطيم أرقام قياسية عالمية. لكن الرعب الدولي من وباء «كورونا» سيؤثر حتماً على نجاحه وعدد زواره ومستوى الأرقام الجديدة التي يحققها بعض المتسابقين الذين يَتَحَدّون أرقاماً حالية أو يبتكرون مجالاً آخر للتنافس العلمي وفقاً لهدف المعرض.
يمكننا التعرف على أسرار الأرقام القياسية في هذا المعرض من خلال بعض الأفكار المستحدثة: ما الذي يتطلبه التوصل إلى أصغر فيلم في العالم من حيث الحجم وليس وقت العرض؟ ما أكبر عصا فقاعات صابون في العالم؟ هل يمكنك تعلم حفظ سلسلة طويلة للغاية من الأرقام، أو أسماء الأشخاص ووجوههم؟ ما الذي ينطوي عليه كونك الأسرع وكيف يمكن أن يساعدك العلم في الوصول إلى ذلك؟
هل من باب الاندهاش أن يكتشف زوار المعرض أن باستطاعة كل واحد منهم أن يحقق ما يبدو مستحيلاً؟ تقول جولي موسكاليك، مديرة العلوم في متحف ساينس نورث: «لقد رأينا بشكل مباشر أن الناس في جميع أنحاء العالم يحبون أن يواجهوا التحدي، وأن ينبهروا، وأن يعرفوا المزيد حول ما يمكن للبشر أن يحققوه. وفي هذا المعرض سيكتشف الزائرون أن هذه الإنجازات لم تتحقق من دون الممارسة والمعرفة والمهارات». ومثلما يعلن أحد المطاعم الأميركية الشهيرة أنه يستخدم خلطة سرية، تقول موسكاليك إن «الخلطة السرية لموسوعة (غينيس) هي في تطبيق العلم لتحقيق النجاح. إذا تمكن شخص واحد من تحقيق ما لا يصدق، فبإمكان أي شخص أن يحققه. نحن نعتقد أن أصحاب الأرقام القياسية يَتَحَدّون الفيزياء وطبيعة المكان نفسه. لكن ما يتحدونه حقاً هو شعورنا المحدود بما يمكن للشخص فعله. من المؤكد أن هذا المعرض سيجعل الزائرين مندهشين لأنهم يكتشفون بالضبط كيف يمكن تحقيق ما يبدو مستحيلاً».
مثل هذا المعرض يجب ألا يكتفي بكندا، فهو قابل للانتقال إلى عواصم ومدن في القارات الخمس للبحث عمّا يملكه البشر من طاقات كامنة وقدرات علمية أو ذهنية أو عضلية أو إبداعية مدهشة لكسر الأرقام التفاعلية.
وبعيداً عن أي دعاية تجارية فإن مثل هذا المعرض يجيب عن سؤال يراودنا: كيف يمكن تحقيق ما يبدو مستحيلاً؟ أو سؤال يلحّ على خاطر أحد الملحنين: هل أستطيع تلحين أطول أغنية في التاريخ؟ وهل يستطيع أحد أن يصبر على سماع هذه الأغنية؟
من أغرب القضايا التي تعرضت لها موسوعة «غينيس» أن شاباً أميركياً اسمه جوناثان لي ريتشز حقق رقماً قياسياً في رفع قضايا قانونية لدى المحاكم في العالم تعدت 2600 قضية. بدأها في سن السادسة عشرة من عمره مستعيناً بمحامي الطفولة بوصفه قاصراً حيث رفع على والدته قضية إهمال بعد أن أخبرته بأن انشغالها بالأعمال المنزلية كان سبب الحروق التي في يده التي أُصيب بها في سن الثالثة. كما رفع قضايا ضد جميع جيرانه وأصدقائه وزملائه في العمل وحتى أقاربه وخطيبته والمحامين الذين دافعوا عنه والقضاة والشرطة لأسباب مختلفة.
ورفع قضية ضد شركة «روك ستار» المنتجة للعبة سرقة السيارات الكبرى (GTA) لأنها – حسب قوله – سببت له صدمة في سن المراهقة. وعندما دخل جوناثان موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية بوصفه حقق رقماً قياسياً في عدد القضايا التي رفعها ضد الآخرين، قام برفع دعوى ضد موسوعة «غينيس» نفسها لأن القائمين عليها لم يستشيروه في وضع بياناته الشخصية.
ورغم عدم فوزه في أغلب القضايا فإنه حقق ما يقارب 850 ألف دولار كتعويضات مالية في القضايا التي فاز بها. ولم تنجح محاولات البعض في إدخاله إلى المصح النفسي لأنه اجتاز بنجاح كل الاختبارات النفسية وبذلك يعد شخصاً طبيعياً، إلا أنه لا يتحاور ولا يستعمل العنف بل يتقن فقط رفع القضايا التي جعلته أحد نجوم موسوعة الأرقام القياسية.
الأمثلة كثيرة لكن ما يهم في الموضوع أن «علم الأرقام القياسية» يطرق الأبواب من الرياضة والفن إلى السياسة والحروب.