عِراسوبيا والتطبيع مع الطغيان
فرج الترهوني
“عِراسوبيا” هو الاسم الذي أطلقه الشاعر والروائي اليمني، عليّ المقري، على دولتِه العربية المتخيّلة حيث تجري أحداث روايته المثيرة، وبالرغم من أن اسم المقري يتشابه مع آخرين يحملونه في ليبيا ينتسبون إلى المقاقرة وهي إحدى قبائل ترهونة، إلاّ أن التشابه في اللقب عرضيّ فقط، فالرجل من أصول يمنية قديمة، وله العديد من الروايات الصادرة عن دور نشر مرموقة مثل الساقي ونجيب الريس، ولتأكيد مكانته في عوالم السرد فقد وصلت روايتان له إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية.
قد تنتمي رواية المقري إلى ما يُعرف بـ “ديستوبيا” أو أدب “المدينة الفاسدة” وهو عالمٌ وهمي يحكمه الشرّ المطلق وليس للخير فيه مكان، من أبرز ملامحه الخراب والقمع والقتل والفقر والمرض، حيث يتحوّل فيه أفراد المجتمع إلى مسوخ يناحرون بعضهم البعض، وتُعد رواية “1984” الشهيرة لجورج أورويل من أهم روايات “ديستوبيا” السياسية حيث تصوّر دولة شمولية عظمى تحطّ من قدْر البشر، ويعيشون فيها مثل روبوتات في ظل منظومة حكم شريرة لا تُلقي بالاً لحقوق البشر ومشاعرهم. وديستوبيا باللغة اليونانية تعني المكان الخبيث، وهو بلد مُتخيّل، عادة ما يكون محكوماً بنظام شمولي وحشي، وقد يكون ما جرى من إخفاقات في العالم العربي بعد ما عُرف بالربيع العربي، هو ما جعل أدب “ديستوبيا” يطفو من جديد على سطح خريطة الأدب العربي لمحاولة فهم ما يجري من مآسٍ في الوطن العربي.
بالرغم من أن “المقري” يمنح اسماً محدداً لدولته المتخيلة، إلاّ أن نظام الحكم فيها غامض وهلامي يتمحور حول شخصية القائد الرمز، لكن لها سمات دولة الجماهير غير محددة الملامح، وإن كان البعض من قرّاء الرواية قد خمنوا أن دولة (عِراسوبيا) هي مزيج من أسماء العراق وسوريا وليبيا، ويعتمد النظام فيها أساساً على حكم الفرد المطلق، الذي يتجاوز بمراحل أي نظام حكم فردي مما شهدته المنطقة العربية في الحاضر أو في الماضي.
عُقدة الرواية تتمحور حول دولةٍ وُصفت ببلادِ الثورة، وصارت تُعرف ببلاد القائد، يضطرُّ روائيٌّ للسفر إليها للمساهمة في وضعِ كتابٍ يروي سيرة زعيمها، بالاشتراك مع لجنة من المثقفين والإعلاميين يعملون مجتمعين على توثيق وكتابة مسيرة حياة القائد المُلهِم العظيم، التي “لا تشبه أي سيرة مكتوبة، أو حتى معاشة من قبل”، باعتبار أنه “ليس بمفكر أو عبقري، وإنّما هو الملهمُ للفكر والعبقرية”.
من خلال السرد نعرف أن كتابة السيرة للقائد ليست بالأمر الهيّن، فالمطلوب أن تُعظم من شأن القائد، وتمنحه المكانة المرموقة التي يعتقد أنه يستحقها في التاريخ، وهي في الواقع مكانة غريبة وشاذة للقائد الذي طغى فتجبّر، ورأى أنه في منزلة بين الإله والأنبياء، وإن لم يستنكف أن تُطلق عليه صفات غالباً ما ترتبط بالذات الإلهية.
السقوط الأخلاقي لبطل الرواية لا يقتصر عليه وحده، وإنما يشاركه العديد من المثقفين المرموقين في التطبيع مع الظلم والطغيان، أي عندما يقوم أصحاب الفكر والقلم والفن، دون وازع أخلاقي، (وهم الذين يُعَدّون ضمير أيّ أمة والمعبّر الحقيقي عن آمالها وطموحتها) بخيانة الأمانة، وبيع أرواحهم للشيطان في مشاهد فاوستية قبيحة تمجّها النفس البشرية السوية ولها عواقب كارثيّة. ومثل هذه النماذج الغريبة من الحُكّام والمحكومين والتطبيع مع الطغيان، لدينا منها وفرة نحن بني العرب قديماً وحديثاً، فقد دبّج النابغة، وهو أحد أهم شعراء العرب قصيدته الشهيرة في مديح النعمان يقول فيها:
فإنك شمس والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبدُ منهن كوكب
أمّا مثقفو عراسوبيا ونخبتها فلم يتورعوا عن إطلاق تسع وتسعين صفة على القائد في السيرة، فالراوي يقترح على أقرانه من أعضاء اللجنة أسلوباً جديداً في الكتابة يُسبغ صفاتٍ نادرة وتفخيمية على القائد، الذي يُطرب لذلك ويكافئ هؤلاء، كما في ذلك المشهد عندما اقترح أحدهم إقران جملة صلى الله عليه وسلّم باسم القائد، واستشهد بسابقة تاريخية تُروى عن الحجّاج بن يوسف.
وهناك الكاتب الكبير “الأحمد” الذي ألّف مائة حكاية وحكاية عن حياة القائد الهمام، بحيث يظلّون على مدار العام يقدّمون حكاية منها، يتابعها الجميع ليستذكروا كل يوم ولحظة تلك الأمجاد الخالدة لزعيمهم. وثمة مشهد يقترح فيه المثقف الزائر أسلوباً جديداً يعدد إسهاماته النهضوية الملهمة، ليردّ مثقف مرموق آخر بأن الإلهام لا يأتي إلى القائد، وإنما القائد هو مصدر الإلهام لخلاص البشرية جمعاء من كل مشاكلها الدنيوية والآخروية، وأنّ إلهامه هو المرشد للمفكرين الاقتصاديين والاجتماعيين ومبدعي الآداب والفنون، وأنه ليس قائداً لعراسوبيا فحسب، وإنما هو قائدٌ أمميّ وليس مجرد قائد أمّة. ولا تتورّع النخبة المطبّعة مع الظلم، بل تتسابق في وضع فصول للسيرة تحمل كل منها عنواناً لصفة من صفات القائد من قبيل:
الحُلم/المبجّل/ المرجوّ/ الملهَم/ الهُمام/ المناضل/ الثائر/ الزعيم/ العارف/ الوعد/ المخلّد/ البديع/ المضيء/ المغيّر/ الكلّ/ الحقّ….. وهكذا حتى يعدّدون تسعاً وتسعين صفة تبجيل..
في هذا الإطار يعيش السارد/الروائي صراعًا داخليًا يتراوحُ بينَ أن يحصل على عائد مالي يُحسّن به أحوال معيشته، ويساعده في علاج زوجته المريضة بالسرطان، وما يعتبره فضيحةً في حياته الأدبية والشخصية، لكن الذي لا شك فيه أن الرواية تتطرق إلى قضية مهمة تتكرر في الكثير من المجتمعات المتخلفة في عراسوبيا وفي سواها، وهي كيف تخون نخبة علماء الأمة ومثقفيها الأمانة، ويطبّعون مع الطغيان خوفاً وطمعاً، فيقودون جوقات تمجيد وتأليه رمز الطغيان، ما يشجعه على الإمعان في ضلالته، ويحبطون أمل التغيير والخلاص لدى عامة الشعب.