عود للمنصور
خالد القشطيني
تواصلاً مع ما رويتُه من حكايات عن المنصور، أتعرَّض لما أورده مولاه الربيع. قال إنه ما رأى رجلاً أربط جأشاً من رجل سعوا به للخليفة، قالوا إن عنده ودائع لبني أمية «فأمرني بإحضاره، فأحضرتُه إليه»، فقال له المنصور: «قد رُفِع إلينا خبر الودائع والأموال التي عندك لبني أمية، فأخرِج لنا منها وأحضرها ولا تكتم منها شيئاً». فقال: «يا أمير المؤمنين أأنت وارث بني أمية؟» قال: «لا». قال: «أأنت وصي لهم في أموالهم؟»، قال: «لا»، فقال: «فما مسألتك عما في يدي من ذلك؟»، فأطرق المنصور وتفكر ساعة، وهي مدة طويلة لخليفة، ثم رفع رأسه وقال للرجل: «إن بني أمية ظلموا المسلمين فيها. وأنا وكيل المسلمين في حقوقهم، وأريد أن آخذ ما ظلموا المسلمين فيه فأجعله في بيت أموالهم».
فقال الرجل: «يا أمير المؤمنين، هذا شيء يحتاج إلى إقامة بينة عادلة. إن ما في يدي لبني أمية هو مما خانوا وظلموا فيه المسلمين. فإن بني أمية قد كانت لهم أموال غير أموال المسلمين»، فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه وقال لمولاه ربيع: «يا ربيع، ما أرى الشيخ إلا قد صدق، وما يجب عليه شيء، وما يسعنا إلا أن نعفو عما قيل عنه»، ثم سأل الرجل: «هل لك من حاجة؟»، قال: «نعم، يا أمير المؤمنين. حاجتي هي أن تجمع بيني وبين من سعى بي إليك، فوالله الذي لا إله إلا هو ما في يدي لبني أمية مال ولا وديعة. ولكنني لما مثلتُ بين يديك وسألتَني عما سألتَني عنه، قابلتُ بين هذا القول الذي ذكرته لك الآن وذلك القول الذي ذكرته أولاً، فرأيتُ ذلك أقرب إلى الخلاص والنجاة».
فقال الخليفة لمولاه: «اجمع بينه وبين من سعى به إليّ»، فجمع بينهما في حضور الخليفة؛ فلما رآه الشيخ قال: «هذا غلامي اختلس ثلاثة آلاف دينار من مالي، وهرب مني وخاف من مطالبتي له. فسعى بي عند أمير المؤمنين».
فشدد المنصور على الغلام وخوَّفَه، فأقر بأنه غلامه وأنه أخذ المال الذي ذكره وسعى به كذباً عليه وخوفاً من أن يقع في يده، فقال له المنصور: «سألتُك أيها الشيخ أن تعفو عنه». فقال: «قد عفوتُ عنه وأعتقته ووهبته الثلاثة آلاف التي أخذها وثلاثة آلاف أخرى أدفعها إليه». فقال له المنصور: «ما على ما فعلت من مزيد». قال: «بلى يا أمير المؤمنين، إن هذا كله لقليل في مقابلة كلامك لي وعفوك عني». قال الربيع: «فكان المنصور يتعجب منه وكلما ذكره قال: (ما رأيت مثل هذا الشيخ يا ربيع)».
حكايات العرب عن فضيلة العفو كثيرة وبليغة تذكّرنا بأنهم اعتزوا بهذه المكرمة أيما اعتزاز. وقال حكماؤهم فيها كثيراً من الحكم والأشعار المأثورة. من ذلك ما قرأتُه عن المأمون وإبراهيم بن المهدي، وكان الخليفة قد عفا عنه، فقال: «ما عفا عني تقرباً لله ولكنّ له سوقاً في العفو يكره أن تكسد بقتلي».
………………………
الشرق الأوسط