مقالات مختارة

عودة إلى التعقّل بحثاً عن حلول

عرفان نظام الدين

يمكن القول من خلال متابعة التطورات المتسارعة في العالم والمنطقة إن الاتجاه العام الجديد يسعى إلى وضع حد للتشنج وسحب صواعق التفجير والعمل على اتباع نهج التعقل والواقعية بحثاً عن حلول تنهي الأزمات المشتعلة وتضع حداً للحروب العبثية التي أكلت الأخضر واليابس وهددت السلام العالمي.
فبعد سنوات من التطرف والاضطرابات والصراعات الإقليمية والدولية، اقتنعت القوى التي تمسك بأيديها لعبة الأمم بأنها أوصلت العالم إلى حافة الهاوية وبدأت تدفع ثمناً غالياً لا يشكل إلا جزءاً بسيطاً من الأثمان التي ستدفعها في المستقبل في حال عدم التحرك بسرعة لإيجاد حلول والبحث عن مخارج مشرّفة تؤمن المصالح وتبعد الأخطار وتشكل بداية لنظام عالمي جديد يقوم على أسس ثابتة وعلاقات متوازنة لا غالب فيها ولا مغلوب.
ولا يعني هذا الاتجاه أن كل شيء يعود إلى طبيعته بلمسة سحرية أو بإشارة ما من هذا الطرف أو ذاك، لأن الطريق صعب ووعر والتعقيدات لا حصر لها وتحتاج إلى وقت طويل وجهود جبارة تعتمد الواقعية والبراغماتية والقبول بالتسويات وتقديم التنازلات والتخلي عن أحلام الإمبراطوريات والقياصرة.
إضافة إلى ذلك، تم التأكد من فشل ما كانت تسعى إليه الولايات المتحدة حول الأحادية في حكم العالم وفرض الأمر الواقع على الجميع، وفي مقدمهم القوى العظمى وروسيا على وجه التحديد.
وهذا التحول الإيجابي لا بد من دعمه وبذل الجهود لتعزيزه وصولاً إلى الهدف المنشود، وهو إطفاء الحرائق التي قارب لهيبها وشظاياها الوصول إلى إحراق العالم كله. ولم يتحقق ذلك نتيجة الاعتراف بالحقوق والإيمان بالعدالة والرغبة في إنقاذ الشعوب، وأكثرها تضرراً الشعوب العربية، بل جاء نتيجة وصول الأزمات والصراعات إلى طريق مسدود.
وهنا نسجل حقيقة ثابتة، وهي أن من بيده الحل والربط استنفد أغراضه وحصل على ما كان يريده في البدايات التي لعبت كل الأطراف أدواراً فيها وسعت إلى تأجيج النيران لغايات في نفوسها! والأكيد أن هذا التحول لم يتم حباً بالعرب، بل من أجل تثبيت المكاسب التي حققتها تلك الأطراف وإعادة رسم خرائط ومعها حدود مناطق النفوذ مع رغبة في درء الأخطار التي يمكن أن تتعرض لها في امتداد الحروب والأزمات إلى ما لا نهاية، والاعتراف بصعوبة السيطرة عليها أو وضع حد لها.
– في البداية، بدا واضحاً أن حروب النفط والغاز حققت أهدافها، لا سيما بالنسبة إلى الدولتين العظميين الولايات المتحدة وروسيا، فقد حصلتا على مآربهما وثبتتا الأمر الواقع في الساحل السوري بالنسبة إلى روسيا أو في الشمال السوري والعراق بالنسبة إلى الأميركيين بدعمهم الأكراد في البلدين ومدهم بالأسحلة وتشجيعهم على إقامة دولتهم المستقلة أو أي شكل من أشكال الحكم الذاتي بإشراف أميركي، على رغم الغضب التركي والمقاومة المستميتة من أجل منع هذ الأمر بدعم من إيران وسورية المعنيتين به. ويمتد هذا التوسع ليشمل طرق أنابيب الغاز وصولاً إلى نفط الخليج الذي يخضع لاعتبارات ظروف المنطقة وتداعيات الحروب والأزمات.
– أما على الصعيد السياسي فالمكاسب لا تعد ولا تحصى: الروس سيحصلون حتماً على الاعتراف بشرعية ضم القرم، وبالتالي التخلي عن الحصار المفروض عليها مع التخفيف من أخطار دعم الدول المحيطة بها، والتي تعتبرها جزءاً من أمنها القومي، كما حصلت على قاعدتين رئيستين في اللاذقية وطرطوس، ووقعت عقوداً بعشرات بلايين الدولارات مع إيران وسورية وغيرهما من دول المنطقة.
في المقابل، حصلت الولايات المتحدة على مكاسب أخرى، وأقامت قواعد في شمال سورية والعراق، ودعمت جودها في الخليج وأوروبا واستعادت في عهد الرئيس دونالد ترامب بعض الهيبة التي فقدتها في عهد رئيس السابق باراك أوباما.
– أما الخاسر الأكبر في هذه التطورات، فهو أوروبا بعد انشغالها بقضية انسحاب بريطانيا والمشكلات الاقتصادية ومكافحة الإرهاب، ما أدى إلى تقلص دورها ومنعها من تحقيق مكاسب باستثناء بعض الفتات في ليبيا وغيرها.
– إن الحرب على الإرهاب أخذت أبعاداً خطيرة لم تتوقف حدودها عند سورية والعراق، وستظل مشتعلة إلى سنوات مقبلة حتى يتمكن التحالف الدولي من هزيمة «داعش» والقضاء على دولته، وإن احتاج ذلك إلى وقت طويل. كما أن هذه الأخطار ستنتقل إلى العالم كله من خلال عمليات إرهابية ستقوم بها «الذئاب المنفردة» والخلايا النائمة في الغرب وغيره.
وهذا يتطلب التعاون بين الدول والتنسيق مع الدول العربية والإسلامية كما تم الاتفاق عليه في إعلان الرياض، وانتهاج سياسة مد اليد وإنهاء حالة العداء التي يمكن أن تفجر مشكلات كبيرة وأزمات، إضافة إلى مفاعيل أزمة كوريا الشمالية وتحدياتها التي تهدد بحرب أخرى.
– إن الوضع الاقتصادي العالمي يعيش حالة قلق ويقف على حافة أخطار لأسباب كثيرة، من بينها الأزمات المتلاحقة وآثار الحروب وعمليات الإرهاب. وهذا بدوره لا يواجَه إلا بوقف الصراعات والتنسيق بين الدول وإشراك الصين الدولة الأقوى اقتصادياً في الحلول، مع أنها نأت بنفسها عن حروب المنطقة ومشكلاتها وسعت إلى تكريس وجودها الاقتصادي.
هذه الحيثيات، التي تستدعي تحولاً في مجرى الحوادث، تشير إلى بداية حلحلة للأزمات من طريق التعقل والحكمة، وصولاً إلى التفاهم والتنسيق بعد سنوات من التطورات المقلقة التي أضيف إليها مشكلات مئات آلاف اللاجئين إلى الغرب وتزايد بروز الأحزاب الشعبوية من اليمين المتطرف وغيره.
لكن هذه التطورات قد تسبب هدم الهيكل فوق رؤوس الدول الديموقراطية والقضاء على مفاعيلها وميزاتها وأسلوبها الحضاري القائم على الحوار والاعتدال واحترام رأي الشعب والاحتكام إلى صندوق الاقتراع واتباع التسامح مع الجاليات العربية والإسلامية وغيرها.
وقد انكسرت حدة هذه المخاوف بعد فشل مرشحة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبن ونجاح ممثل الوسط إيمانويل ماكرون، ما أدى إلى تفاؤل وانحسار موجة التطرف.
إلا أن أهم تطور جاء من طريق الرئيس ترامب الذي تراجع تدريجياً عن معظم مواقفه العنيفة تجاه الجاليات الإسلامية، إضافة إلى انتقاده حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي والصين.
وقد شهدنا وقائع هذا التغيير في لقاءات القمة التي عقدها مع الرئيس الصيني وفتح صفحة جديدة معه، ثم في مجالات أخرى توَّجها بقرار التوجه إلى المملكة العربية السعودية في أول زيارة خارجية له للاجتماع بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وقادة دول الخليج وبعض رؤساء الدول العربية والإسلامية، ما دفع إلى التفاؤل بتعزيز التحالف معها من أجل مكافحة الإرهاب والتعاون في كل المجالات.
ولا شك في أن هذه الزيارة شكلت بداية ترسيخ الاستقرار في المنطقة، إلا أنها لن تنجح في حال عدم إيجاد حل شامل لقضية الشرق الأوسط وإرغام إسرائيل على وقف تعنّتها وتوسعها وحملها على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمها حق تقرير مصيره وإقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف. من دون هذا الحل، ستبقى المنطقة في حالة حروب وأزمات واضطرابات، وسيستمر الإرهاب في استغلال الظلم التاريخي لتوسيع نشاطاته وتبرير عملياته.
إلا أن مسك الختام في هذا التحول، تمثل في إعادة فتح قنوات الاتصال والتنسيق بين الولايات المتحدة وروسيا، بدءاً من إعادة تفعيل الاتفاق العسكري حول التنسيق في الأجواء السورية، ثم التشاور حول ترسيخ وقف لطلاق النار في سورية وإقامة المناطق الآمنة وتوقع انفراجات أكبر بعد اجتماع ترامب بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يُنتظر أن تتوَّج بلقاء القمة مع الرئيس الروسي فلاديمر بوتين على هامش «قمة العشرين».
هذه المؤشرات والاتصالات المتسارعة توحي ببدايات جديدة تبشر ببدء حلّ العقد وإيجاد حلول للأزمات والحروب نأمل بألا تكون على حساب العرب وسيادة دولهم ووحدة أراضيهم، وعدم تنفيذ مخططات التقسيم والتفتيت وتبادل الغنائم واقتسام مناطق النفوذ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الحياة” اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى