عن فرص التسوية في ليبيا
طارق متري
عرفت ليبيا فرصاً ضائعة وأخرى مؤجلة. ومنذ عام 2014 أجمعت القوى السياسية، والجماعات المسلحة بقدر أقل، على القول بوفاق وطني لا يقصي أحداً، ما خلا الجماعات المصنّفة إرهابية. وعلى غرار الدول المعنية بليبيا أو المهتمة بها، حسبت تلك القوى التسوية السياسية القائمة على تقاسم السلطة حلاً لمشكلات ليبيا أو مدخلاً إليه. فتوالت المبادرات الأممية، وكلها يسّرت حوارات بين الليبيين لم تثمر حتى ديسمبر (كانون الأول) 2015. فوقّع في الصخيرات اتفاق أخذ مطالب الأطراف جميعها في الحسبان. اكتنفه الغموض حيناً، ووقع في لون من التناقض حيناً آخر. ومذّاك، دارت السياسة الليبية وسياسات الدول والمنظمة الأممية حول تنفيذ مخرجاته مرة، وتعديل بعض بنوده مرة أخرى.
رغم ذلك، تعمّقت الانقسامات من كل نوع، وتدهورت الأوضاع المعيشية في ليبيا كلها، واضطرب الأمن في أنحاء كثيرة منها. غير أن اجتماعين عُقدا أخيراً في روما وأبوظبي أوحيا بأن فرصة الاتفاق باتت وشيكة. فالرعاية الإيطالية لاجتماع عقيلة صالح وعبد الرحمن السويحلي، وهما رمزا الخصومة السياسية الحادة التي طبعت الحياة الليبية في الأعوام الثلاثة الأخيرة، بدت في نظر الكثيرين دليلاً على حرص غربي متعاظم على إنجاح التسوية. والرعاية الإماراتية لاجتماع فائز السراج وخليفة حفتر، وهما طرفا النزاع على السلطة، تركت انطباعاً بأن تضافر جهود عربية ودولية فتح الباب واسعاً أمام الاتفاق. وطغى على الأحاديث والمواقف الاعتقاد أن وضع حد لتشرذم ليبيا والليبيين بات وشيكاً. لا يناقش أحد حق الليبيين في توقّع أفضل الممكن الذي يصنعه لقاء الإرادات الليبية. إلا أن لقاء الإرادات السياسة، مدفوعاً بمشروع جديد لتقاسم السلطة، لا ينفي – عند مجموعات أو فئات سياسية مستثناة منه – الرغبة في التعطيل أو التخريب والقدرة عليهما. فعدد لا يستهان به من التشكيلات المسلحة، على تعدد تسمياتها ومشاربها وتحالفاتها وإمكاناتها وحجم الدعم الخارجي المتوفر لها، لم ينهَك ولا هو مستعد للمجازفة بشبكة المصالح التي نسجت حوله، والتي تهدّدها العودة إلى الاستقرار. وإذا ما اختار بعض هذه التشكيلات أن يلوذ بالقوى والشخصيات السياسية الكبيرة، أو يمارس نفوذه عليها بحجة حمايتها، فإن بعضها الآخر لا ينفك يذّكّر من ينساه أو يتناساه أن الثوار لن يلقوا سلاحهم حتى «تتحقّق أهداف ثورة فبراير (شباط)». ويعني ذلك، إذا سلّمنا أن بناء ليبيا الجديدة قضية جميع الثوار الفعلية، أن تجريدهم من السلاح تنفيذاً للاتفاق السياسي أو دمجهم في القوات المسلحة مسألة مؤجلة إلى أمد غير قصير. بالمقابل، نجد في ليبيا من فقد الثقة بالعملية السياسية، ويبحث عن بدائل تضطلع بها قوى حية تذهب من المحلي، أي من المدن والقبائل، إلى الوطني. لكن قيام هذه البدائل ما زال متعثراً، بل متعذراً.
ولا يمكن لأحد أن يتجاهل ميل فئة من الليبيين واسعة، أياً كان من علو صوتها في الخطابة الوطنية والتمسك بالسيادة، إلى العودة إلى انتظار ما تعدّه الدول الغربية لليبيا أو استدعائه والاستقواء به. والعلاقة الملتبسة هذه بدأت منذ التدخل العسكري الغربي لحماية المدنيين وإسقاط نظام القذافي. واستندت إلى قناعة راسخة بأهمية ليبيا في حسابات الدول الغربية السياسية والاقتصادية. صحيح أن التدخل الغربي كان لا نظير له في سرعته واتساعه وفاعليته. لكنه صحيح أيضاً أن الدول المتدخلة أسرعت بالانسحاب مثلما أسرعت بالتدخل، وتركت وراءها حالة فوضى كبيرة، أقسى مظاهرها انتشار السلاح بين أيدي الثوار، ومن ادعوا أنهم كذلك. وضاعفها تفكك ما بقي من الجيش والشرطة، وهما مؤسستان سبق أن تركهما القذافي ضعيفتين لمصلحة تشكيلات عسكرية وأمنية رديفة. أدارت الولايات المتحدة ظهرها لليبيا، باعتراف الرئيس باراك أوباما نفسه غير مرة، علماً بأنها استدارت نحوها مرات قليلة وعلى نحو فاعل. فاعترضت بواخر النفط المحمّلة من قبل محتلي المنشآت، واعتقلت «أبو أنس الليبي» وأحمد أبو ختالة لاتهام الأول بالمشاركة في عمليات إرهابية قامت بها «القاعدة»، والثاني بالضلوع في إحراق القنصلية الأميركية في بنغازي، وقصفت مواقع لـ«داعش» في سرت. أما فرنسا، فبعد أن لعب رئيسها نيكولا ساركوزي دوراً سبّاقاً في التدخل وفي إقناع سواه به، انتخب رئيس جديد في مايو (أيار) 2012 انتهج سياسة انكفاء عن ليبيا. ثم انشغلت فرنسا بحربها في مالي، وبات انخراطها بشؤون ليبيا متأثراً بهواجس أمنية في المدى الأفريقي الفرانكفوني المجاور.
من جهتها، بدت المملكة المتحدة أكثر نشاطاً في متابعة الحياة السياسية الليبية؛ مما حمل بعضهم على اتهامها بالانحياز لفئة سياسية ولمدن بعينها، في حين لم تقّدم دعماً يذكر للدولة الليبية الناشئة. تبقى إيطاليا التي تربطها بليبيا علاقة تاريخية أقوى من الدول الغربية الأخرى ومصالح فعلية مباشرة. فهي المستفيد الأول من الاستيراد الليبي وتعتمد بنسبة كبيرة على النفط والغاز الليبيين ومعنية أكثر من أي جهة أخرى في أوروبا بتدفق المهاجرين غير الشرعيين، والغرق المأساوي لعدد منهم، بعد إبحارهم من الشواطئ الليبية. غير أن إيطاليا، وإن كانت أكثر معرفة من سواها بأوضاع ليبيا ومرونة في بناء العلاقات مع مدنها والقوى الاجتماعية التقليدية والسياسية الحديثة فيها، غير قادرة بمفردها على أن تؤدي دوراً فاعلاً أو قيادة أوروبا في سياستها حيال ليبيا. وكثيراً ما يشكو مسؤولوها من ضعف تجاوب الدول الأوروبية الأخرى معهم ومن تحمّل بلدهم أعباء العمل الغربي غير المكتمل في ليبيا.
تأمرنا الواقعية بالاعتراف بأن خبرة السنوات الست الماضية لا تشي بأن الدول الغربية قررت هذه المرة أن ترمي بثقلها لإنجاح التسوية السياسية في ليبيا. ولعلها لا تملك، أو لا تعطي نفسها، الأدوات التي تسمح بذلك. ويؤيد هذا التقييم المتحفظ للدور الغربي تكرار المسؤولين الغربيين عزمهم على تشجيع العملية السياسية في ليبيا، مضيفين إليها عبارة «بكل الوسائل المتاحة»؛ وهو ما يعني غالباً أن ما ستقدمه الدول الغربية سيظل قليلاً. ومما يزيد هذه المحدودية تصاعد النفوذ الروسي. فبعد طول شماتة بفشل الدول الغربية في إجراء التحول الديمقراطي في ليبيا، صارت روسيا فاعلاً كبيراً، وإن منحازاً انحيازاً سافراً للطرف المسيطر في شرق البلاد، الذي يواجه بضراوة الإسلاميين، جميعهم ومن غير تمييز بينهم.
ومهما يكن من أمر الدعم الدولي للتسوية السياسية موضوع التفاوض الحالي، واحتمالات إعاقتها على يد المتضررين المحليين، فإن من شروط ديمومتها في تأمين الاستقرار ألا تكتفي بتقاسم السلطة. لعل ما يشغل المتفاوضين اليوم، فضلاً عن الوسطاء، هو تعديل هيكلية المجلس الرئاسي وعضويته، والاتفاق على قيادة الجيش، وتحديد موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية العام المقبل. لقد أجريت في ليبيا 3 انتخابات منذ الثورة، واحدة للمؤتمر الوطني العام، وثانية لهيئة صياغة الدستور، وثالثة لمجلس النواب. ولم تتقدم ليبيا على طريق الديمقراطية. فالانتخابات المستعجلة في بلد لا مؤسسات قوية فيه، ولا حكم قانون، ولا قيم ديمقراطية راسخة تعمّق الانقسامات. وقد فعلت. لأن الفائز يأخذ كل شيء أو يسعى لذلك. ولأن تأجيج الصراع، ثم الاضطرار إلى المهادنة يعزّز نوازع الغلبة التي ترى في التسوية خياراً غير مستحب وألا مفر منه. لذلك؛ فإن الفرصة الحقيقية لحل مستدام تتعزّز باتفاق الجميع، وعملهم المشترك على بناء الدولة ومؤسساتها، واعتباره مقدّماً على العودة تكراراً إلى تقاسم السلطة. لهذا السبب ولسوء الحظ سينتظر الليبيون طويلاً.