عن العائلة ليبيا
حمزة جبودة
1
في سنوات مضت، كان يجلس في كرسيه داخل المحل، ودخل عليه شاب في الأربعينات، أخبره بأن هُناك موضوعا يرغب في الحديث عنه، ولكن ليس في محلّه. لأهمية الأمر.
خرجا معًا إلى مقهى قريب، وبدأ هذا الأربعيني في الحديث، قائلا لصاحب المحل: أنا تاجر كما تعرف، ولي شُركاء في تجارتي، وكُنّا قبل أيام نقوم بجرد القيمة المالية التي كسبناها من إحدى صفقاتنا. وقرّرنا جميعنا أن نستقطع مبلغًا من كل حصّة، لنُعطيها لأسرة ليبية تستحقّها. صاحب المحل تفاجأ بما قاله التاجر، الأمر الذي جعله يردّ على كلامه: اشرح لي بالضبط ما الذي تُريدونه بالضبط، ضحك الأربعيني وقال لهُ: الأمر لا يحتاج لشرح.. كل ما هُنالك نحن وفّرنا مبلغًا مُحترمًا يكفي لأن تعيش منه أسرة ليبية، وأيضا فكّرنا في استثمار هذا المبلغ للأسرة المحتاجة!
هُنا ردّد صاحب المحل مرّة أخرى سؤاله: اشرح لي بالتحديد وبالتفصيل ما ترغبون في صُنعه. كان المقهى لا يوجد فيه الكثير من الزبائن، الأمر الذي جعل الأربعيني يرتاح للحديث بحُريّة، لكون الموضوع الذي جاء به، على درجة عالية من الكتمان والسرية. سأخبرك بكل التفاصيل اطمئن.
حين قرّرنا أن نستقطع من كل حصّة في آخر أعمالنا التجارية، فكّرنا أننا يجب أن يكون المبلغ الذي جمعناه لأجل مساعدة أسرة ليبية محتاجة، يجب أن يذهب هذا المبلغ، إلى أسرة تستحقه بالفعل، ودورنا لا يقتصر على تسليم المال لها فقط، بل مساعدة هذه الأسرة على تكوين تجارة صغيرة، مثل محلٍ للمواد الغذائية أو أيّ شيء يُمكنه أن يكون مصدر دخل ثابت لها، ولهذا لجأنا إليك كونك صاحب محل وتملك الخبرة في هذه المجالات التجارية. هُنا تساءل صاحب المحل: ولماذا أنتم لا تقومون بهذا العمل كونكم تجّارا.. ردّ عليه الأربعيني، نحن تجارتنا كما تعلم ليست لها خبرة في المحال التجارية، واختصاصنا يقتصر على جلب المواد الأساسية للمحال الكبيرة، لدى وكما تعلم لا نملك خبرة في تلك التجارة، التي نعرف أنك ضليع فيها وتفهم قوانينها.
خرجا من المقهى، واتفقا أن يجتمعا مرّة أخرى بعد أيام، بعد أن تكفّل صاحب المحل بالبحث عن أسرة محتاجة.
بعد أيام اجتمعا في ذات المقهى، وكانت البُشرة واضحة على وجه صاحب المحل، إذ قال للرجل الأربعيني، وجدت أسرة مكوّنة من رجل وأربعة بنات وشابين مع والدهم المُقعد وأمهم ربّة البيت.. البنات واحدة تدرس في الثانوية، والأخريات في الجامعة، أما الشابان فهما يفترشان الشوارع بعلب المناديل و(السامينسا)، وبيتهم بالإيجار، ولولا بعض أهل الخير لكانوا في الشارع.
هُنا قال التاجر الأربعيني، أرغب في رؤية هذه الأسرة ولو من بعيد، وبالفعل اتجها بعد خروجهم من المقهى إلى الشارع الذي تسكن فيه هذه الأسرة. وبعدها غادرا المكان.
بعد أسبوع اتصل التاجر بصاحب المحل، قائلا لهُ: أرغب منك في مساعدتنا في البحث عن مكان يُصلح أن يكون محلاً صغيرا، في الشارع الذي تسكن فيه الأسرة. وعده صاحب المحل بأنه سيقوم بكل ما في وسعه لإيجاد مكان مناسب وقريب من بيت الأسرة.
2
بعدها بالفعل وجد المكان، والذي كان عبارة عن ” دار” صغيرة أعاد ترتيب بنائها صاحب البيت في وسط الشارع الذي يبعد عن بيت الأسرة بمسافة قصيرة.
ولكن مع هذا كله لم تكن في حساباتهم كيفية إقناع الأسرة، أن المبلغ المخصّص الذي كان من نصيبهم، هو في الأصل، من مصلحة عامة، تتكفل بالأسر البسيطة، والمحتاجة. وبعد مباحثات بين التاجر وصاحب المحل، اتفقا أن يكون التاجر هو مصلحة عامة تهتم بالملفات التي تخصّ الأسر الليبية، وأن أسرتهم تم اختيارها لأجل أن يكون المبلغ لهم، وأقنعوا الأسرة فيما بعد، أن هذا المبلغ يجب أن لا يُسلّم باليد، وأن المصلحة العامة ستتكفّل بأن تستثمره في محلٍ للمواد الغذائية.
كل هذا كان بالتنسيق مع شركاء التاجر، الذين كانوا على اطلاع بكل التفاصيل التي تمت فيها هذا العملية الإنسانية بنجاح.
وبعد أن أصبح المحلّ مُجهزّا بالأرفف والمواد الغذائية، إضافة إلى تركيب مُكيّف، وثلاجة لعرض المرطّبات والحلويات. وكل ما ينقصه، جاء التاجر (الموظف بالمصلحة العامة)، وأخبر الرجل المُقعد أن المحلّ جاهز لأن تستلمه.
3
دخل الرجل المُقعد، وهو في حالة جعلته يقول بصوت خافت: ” مش مصدّق أنا عندي محلّ.. مستحيل، بالله عليكم مش ناقص، كانها كاميرا خفية، قولولي”.. ابتسم التاجر(الموضف بالمصلحة الحكومية) هذا مفتاح المحل، ” وتوا سامحني لازم نمشي باش نوقّع على شغلي، لأن مهمتي تمت، وربي يباركلك في رزقك”.
هذه القصة ليست من وحي الخيال، بل واقعية، وأصحابها حقيقيون ما يزالون إلى يومنا هذا يمارسون فعلهم الإنساني، دون أن يعرفهم أحد، ومنهم الكثير والكثير في حياتنا، لكننا لا نعرفهم ولا نراهم. ورُبّما يكونون قريبون منّا بدرجات كبيرة، رُبّما هم جزء من أسرنا أو عائلاتنا، أو أصدقاء لنا أو أناس نعرفهم.
4
الجذر الإنساني لا ينضب ولا ينتهي، هو يُشبه الخيال في أوقات كثيرة، نظرًا لما عشناه طيلة سنوات من الكراهية لبعضنا، والاتهام المباشر والمتبادل حين تُفرّقنا القضايا التي أبتلينا به. ولكن مع كل ما مررنا به، إلا أن الجذر الإنساني ما يزال في أعماق الأرض التي تربّينا فيها، وما يزال، ثابتًا في عطاءه.
5
الأسرة التي امتلكت محلاً صغيرا، لم تكن لوحدها بعد أن استلم ربّ الأسرة المحل، فصاحب المحل والتاجر وشُركاؤه، أصبحوا زبائنهم بطريقة مُختلفة، بعد أن أبلغوا من يعرفوه أن يشتري من ذلك المحلّ الصغير، حين يحتاجون لأي شيء، خُبز، عصائر، مواد تنظيف، أي شيء يحتاجونه يجب أن يشتروه من المحل الصغير.
6
أما عن الإنجاز الذي لم يكن في مخيّلة التاجر وشركائه، أنهم وبعد سنتين، من هذا الفعل الإنساني، أكتشفوا أن الرجل قد زوّج أبنيه، وأن إحدى بناته، أصبحت معيدةً بإحدى الكليات وبعد أشهر ستُسافر لإكمال دراستها العليا.
7
كل هذا كان عبارة عن فكرة، آمن بها الرجل الأربعيني وشركاؤه، بمساعدة كبيرة من التاجر، الذي أصبح يعود إلى كرسيّه الصغير داخل محلّه، ويبتسم حين يزوره التاجر، دون أن يذكروا حرفًا واحدا عن تلك الأيام، التي جعلتهم أصدقاء، يعملون إلى اليوم في ترسيخ مفهوم العطاء والمساعدة.
8
كل ما تم سرده لم يكن وفق ترتيبات مُنمّقة، أو تجميل الصورة التي يراها كلٌّ من زاويته، بل كان سردًا عفويا وتلقائيا، تزامن مع حملة ” على خاطر خوك ” التي أطلقتها قناة 218 بالتعاون مع الهلال الأحمر، لأجل ترسيخ أن الليبي لن يجد معهُ إلا أخيه الليبي، مهما حدث من مآسٍ وانقسام، ومهما سيحدث،.. وما حدث مع الرجل المُقعد، والتاجر وصاحب المحلّ، هو جُزء من قصص لا تنتهي وما تزال مستمرة في كل بقعة في ليبيا، قد لا يراها الجميع، ولكن في المقابل، قد تعيشها أسرة أو طفل أو عجوز، وتبتسم بعدها.