عن التيار والنشيد واللحم “الوطني”
سالم العوكلي
منذ فترة التقيت بأحد الشيوخ الذي قضى حياته في تربية الأغنام، وطوال الحديث كانت شكواه المرة منصبة على خوف يختلف عن مخاوف الليبيين الشائعة في هذه الفترة الحرجة. لا يشكو من الحرب، ولا من فقدان السيولة، ولا من الطوابير، ولا من انقسام البلد، ولا سيل الهجرة غير الشرعية، ولا ضيق ذات الحال، ولا من تجريف الغابات أو الاعتداء على أملاك العامة والخاصة، كان حزينا وخائفا من شيء يتعلق باختصاصه في رفقة الأغنام طوال حياته، وفحوى شكواه من كون الكثيرين من مربي الأغنام أصبحوا يستعينون بفحول أو أكباش جزائرية أو سودانية لتخصيب أغنامهم نظرا لقدرتها على النمو الوافر والسريع. حدثني بمرارة خائفا من انقراض سلالة الأغنام الليبية الفريدة والتي يتفاخر الليبيون بنكهة لحمها المختلفة عن كل أغنام العالم الذي استوردوا منه اللحوم .
مفردة (وطني) ارتبطت في مخيال الليبيين بهذا اللحم المفضل لديهم؛ والذي كان دائما يحافظ على حظوته وسعره وسط هجوم اللحوم من جميع القارات، فطيلة عقود كان محرما استخدام هذا المصطلح إلا حين يكون صفة للحم أو الخرفان الأصيلة، ولعل هذا ما أربك الليبيين حين بدأ تداول مصطلحات “الوطنية” أو ا”لوطني” الذي تكرس في ذاكرتهم وفق هذا التوصيف الذي طالما حملته يافطات كبيرة في أسواق اللحوم، حولي وطني أو خروف وطني . تلك اللافتات التي يسيل لها اللعاب في مجتمع تميز بشراهة ملفتة تجاه اللحوم، وبقدر ما كان الليبيون يصبون جام غضبهم على كل ما هو “وطني”، من صناعات، أو إدارة، أو خدمات طبية أو تعليمية، أو شركات طيران، أو غيرها من الخيبات الوطنية، بقدر ما ظلوا يتفاخرون بصفة الوطني المقترنة بلحم الضأن الليبية الأصيلة. خوف مشروع من شخص عاش حياته يستنشق رحيق صوف أغنامه ماشيا في دروب المراعي خطوة خطوة، مشاركا هذه الأنعام سراءها وضراءها ، مواجها معها برد الشتاء وقيظ الصيف ومواسم ريح القبلي وغلاء الأعلاف وشح الماء، مجيبا عن سؤال الوطن بخوفه الأصيل الذي لا يفسره سوى الشغف ، ولا شيء غير الشغف.
حين دعيت من قناة 218 للمشاركة في ندوة عن “التيار الوطني” أول سؤال واجهني : ما المقصود بالوطني ؟ وإذا ما اعتبرنا مفردة التيار تعني الحركة في اتجاه واحد ومن أجل الوصول إلى هدف واحد، فكيف نصبغ على هذا التيار صفة الوطني؟ وما هي الصفة التي من الممكن أن تصبغ على التيارات المضادة أو المعارضة إذا ما سلمنا فرضا أن في ليبيا يوجد ما يمكن أن نسميه تيارات؟ .
الحراك في ليبيا يشبه حراك الرمال في صحرائها الشاسعة، فهي تتحرك بقوة من خارجها وتغير ملامحها كل يوم أو كل ساعة ، نبيت على شكل معين لكثيب، أو ما يسمى سيفا رمليا، لنجده في الصباح قد تغير شكله ومكانه، بينما أخفت أصابع الريح أثار أقدامنا أو طرقنا المدروبة ما يجعلنا كل مرة نتيه عن وجهتنا، وبقدر ما تبدو الرمال تتحرك بشكل جماعي إلا أنه في الواقع كل حبة رمل مستقلة بذاتها ولها حدودها الخاصة وإن أرغمتها قوة عوامل التغيير على أن تتحرك في شكل كثيب.
نعم فكرت كثيرا في هذه الصفة ، صفة الوطنية ، وجهزت كلاما لكني لم أجد وقتا لقوله أو أن السياق لم يستفزه في داخلي، حيث كنت أريد أن أشن هجومي على هذا الاصطلاح الغامض الذي بنيت فوقه الكثير من الفاشيات والدكتاتوريات، والذي بحجته صودر كل رأي مخالف أو سجن أو قتل صاحبه بتهمة اللاوطنية أو خيانة الوطن، والذي أصبح يتداوله الليبيون بكثافة في وسائل الإعلام والتواصل وكل واحد يرى تفسير الوطنية من وجهة نظره ، وكل مخالفٍ تهمته الجاهزة أنه غير وطني وخائن، وأصبح هذا التداول يشبه تداول التيارات الدينية مع تلك الاصطلاحات الغامضة المتعلقة بتطبيق الشريعة وبالإيمان والردة والكفر وغيرها من التهم الغامضة التي تقرأ النوايا وتطلع على ما في الأفئدة ، وبذلك انتقل التكفير إلى حقل السياسة وأصبحت الوطنية مرادفا لفكرة الإيمان التي يصبغها من شاء على من شاء أو ينزعها منه وفق مصالحه الخاصة أو مزاجه الشخصي لحظة حديثه .
كنت أريد أن اخسف بمصطلحات الوطن والوطنية لصالح فكرة “المواطنة” التي هي الركيزة لهذا الشعور الذي ينمو في داخل الإنسان ويجعله يحب جنسيته وكل رموز هذه الجنسية ، لأن التمتع بحق المواطنة هو من يجعلنا نفكر في قيمة الوطن بطريقة مختلفة ومن ثم بالوطنية حين تشبه شعور مربي الأغنام المذعور من فكرة أن يخصب المكان بما لا يمت لذاكرته وتاريخه بصلة، واستيراد هذه الفحولة الغريبة يشبه استيراد الأجندات الدينية أو السياسية التي لا تمت لتاريخ المكان ووجدانه بصلة ، إنه الخوف نفسه والفزع . فالنكهة مرتبطة بالبيئة وفكرة العيش المشترك في ظروف مشتركة أكثر من ارتباطها بجينة أو بتعالي سلالة وطنية ، فربما كل مواطن في هذا العالم يفضل نكهة ما تنتجه أرضه وما يشاركه المحيط والمناخ والتاريخ نفسه .
المواطنة شيء ملموس يمكن تدريسه وتعليمه ويمكن دسترته أو تحويله إلى ضمانات ملزمة، أما الوطنية فهي تجريد لهذا المعنى، لكن خوف الأنظمة من تحقق هذه الميزة الحضارية هو ما جعلها تتحدث عن تجريدات مثل الوطن والوطنية لتجعلها شعارا بديلا للمواطنة، ولتصبغ عليها بعدا ميتافيزيقيا لكي تغدو صالحة لثقافة التكفير السياسي دون أدلة لكل من يختلف معها في الرأي أو الرؤية .
لهذه الأسباب كان الحديث عن التيار الوطني لا يخلو من التباس، ليس من المتحدثين فقط، ولكن من قبل المعلقين على هذه الندوة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الذين حصل لديهم التباس يتعلق بكون من شاركوا في الندوة هم التيار الوطني، وما حدث أن مجموعة من الليبيين من مشارب مختلفة تلمسوا تاريخ النضال السياسي المؤسس لهذا الكيان ووضعه على عتبة الاستقلال . ومأتى الارباك هو أن هذا التوصيف الذي تم تغييبه في عقود كاملة يبدو التشبث به نوع من التشدد العقائدي المتطرف الذي ينطلق من نزعة شوفينية، المفارق أنها لا تبتعد عن جلد كل ما هو وطني في سياق الخلط بين مفهوم الوطن الذي من المفترض أن يسمو إلى قيمة المواطنة، وبين التخلف كمنظومة لا ذنب للوطن فيها إلا بكونه حاضنا مكانيا لمن يدافعون عن التخلف بضراوة.
صعب الحديث عن الوطنية لكن الحديث عن تاريخ الوطن قد يجيب عن أسئلة متعلقة بها رغم عدم الثقة الكاملة في التاريخ، لكن شخصا يغضب احتجاجا على تجريف الغابات أو تلويث الشواطئ، أو تحريف سلالة شركائنا في هذا الوطن، قد نقول عنه دون كثير تفكير أنه وطني، وكل ما يحتاجه في هذا الوطن الذي أَحبَّه بسبب الألفة فقط حق مواطنة، كمكافأة لحبه المازوخي لوطن ما عاد يحبه. شيء غامض يشبه ذلك الشعور الذي راودني وأنا في عمان حين كنت أضيف لكل رقم مسجل في جوالي الرقم (218) كي اتواصل مع أهلي وأصدقائي في ليبيا، وفعلا أحسست أنه ليس مجرد رقم، لكنه شفرة أخرى لتفسير معنى الشغف بألفة المكان الذي غالبا لا يحتاج إلى أدلة.