عندما تُتّهم بإنسانيتك
رزان المغربي
نشرتُ تدوينة على حسابي الشخصي في الفيسبوك، وأرفقتها بفيديو قصير لسيدة بيروتية متقدمة في العمر، تجلس إلى البيانو في صالة بيتها، وتعزف عليه مقطوعة موسيقة هادئة، المكان حولها عبارة عن فوضى، زجاج نوافذ مهشمة، وقطع أثاث تحطم، وفتاة تقوم بأعمال التنظيف، في أثناء الاستماع إلى سيدة البيت وهي تحاول استعادة هدوئها النفسي بالموسيقى، صورتها تعيد للأذهان مشاهد من أفلام عالمية، مثل الفيلم الشهير تيتانيك أثناء غرق السفينة والفرقة الموسيقية تواصل العزف، أو فيلم عازف البيانو الشهير أثناء الحرب العالمية، عندما يعزف بين أكوام مخلفات الحرب.
وسواء كان الفيديو الذي انتشر على وسائل التواصل ومواقع القنوات الإخبارية، سواء كان عفوياً، أو معدًا بصفته محتوى، تم الاشتغال عليه، للدلالة على قيمة الحياة، مقابل نشر ثقافة الدمار والموت، في الحالتين المشهد يستدعي التأمل والثناء على تلك الروح الجميلة، لكن للبعض رأي مخالف! بل تعليق فيه استنكار للاهتمام بأمر ما حدث في مرفأ بيروت وتداعياته.
وحينما يقف العالم على رِجل واحدة حرفياً، وهو يشاهد ما حدث في مرفأ بيروت عصر يوم الـ4 من يوليو، من تفجير مرعب وغامض وصل تردده حتى قبرص، وسحابة دخانية امتدت لتصل إلى سهل البقاع، فيما رصد مركز الزلازل في الأردن قوته المعادلة 4.5 على مقياس ريختر، والعالم يهتز ويتأثر ويشاهد الفيديوهات الملتقطة للحدث، ويتداولها في كل الوسائط، بعد أن تقلصت المسافات بين دول الأرض كافة، صار عالماً يأتيك بكل ما يحدث، من خلال شاشة عرض بحجم هاتفك، وحدث التفجير على غفلة مُشكلاً صدمة أصابت بعضنا بالخرس لدقائق من هولها، وطبيعي بتنا نتشارك ضمن عالمنا الافتراضي، مشاعر الصدمة والرعب ثم التعاطف والدعم الإنساني، والأكيد أن لبيروت في وجداننا أثر مميز مما زاد من حرقتنا على ما حدث، لكنه لا ينفي عدم تأثرنا بما يحدث في أي بلد بالعالم، وبينها بلادنا المرهقة بلعنة الحرب والأزمات، إنما بيروت الآن تكتوي بالنيران، نستذكر صورها في لا وعينا صورها تحفر عميقاً، تأثيرها في ثقافتنا ورؤيتنا للجمال، نموذجها الديمقراطي حتى لو شابته عيوب، حافظت عليه رغم محنتها الصعبة، وقدرتها على تعليمنا كيف يمكن تجاوز الخراب وآثار الحروب لصالح البقاء على قيد الحياة.
سباق الفوز بالشقاء والكوارث:
ما حدث في بيروت وهز ضمير البشرية شرقاً وغرباً، تلك اللحظة لو كنت ترى وتسمع من خلال الشاشة، صوت الانفجار وتشاهد النيران وسحابة كثيفة من الدخان تحيل منارة بيروت وقلبها إلى بركان مشتعل، يقذف حمماً وجثث لبشر، كانوا أحياء قبل لحظة كانوا يملكون عائلات، لديهم بيوت وأحلام، لحظتها ستتحول جلستك المسترخية في بيتك مع فنجان قهوتك إلى تماهي تام معهم، لن تبقى المشاعر محايدة، فهذا ليس فيلما سينمائيا وتمتلك أعصاباً متينة وقادرة على مشاهدة كل هذا الخراب ولا تصرخ من أعماقك، ولا تتلو صلواتك من أجل أن ينجو الأبرياء. إذا ما كنا نجلس بمأمن لا يعفينا التنصل من مشاعرنا المتعاطفة مع الحدث، والصور المتلاحقة تأخذنا باللاوعي لمنطقة المخاوف من حجم الخسارات، أشخاص فقدوا حياتهم، وآخرون فُقدوا ضمن الركام، ودمار الممتلكات، تلك اللحظة من الطبيعي أن تُعبّر عن حجم تعاطفك وخوفك وتتمنى السلامة للجميع، وقبل أن نستفيق من هول الحدث، يأتيك من يستنكر دعمك المعنوي، ويصغر من حجم الكارثة؟ بل تصبح مشاعرك وإنسانيتك محل تهمة تحتاج إلى تبرير! ووطنيتك على المحك لأنك لست لبنانيا في هذه المحنة، فجأة تحضر هويتك وانتماءك في ذهنيتهم، وتوضع على منصة الاتهام، أنت الآن متهم بإنسانيتك!
يتبارى بعضهم بسن سكاكين إضافية وإدخالك معه في سباق على النكبات والكوارث التي أصابته وأصابت بلادا بعينها، ويطالبك بجرد حسابك الشخصي بتاريخ سابق، يحاول تعداد ما أصاب فلسطين والعراق وسوريا وليبيا واليمن، تصبح مطالباً بمبررات ترضي أحقاده الصغيرة، بدل أن تطالبه بمحوّ ثقافته العمياء المتعصبة، محوّ لعنة أنا الأول.
أسراب فقدت البوصلة:
تخيل أسراباً من الطيور فقدت بوصلتها في السماء؟ وبدل أن تحلق مُشكّلة مشهداً جمالياً متناغماً، صارت تائهة تتخبط في كل اتجاه وصوب، هكذا بدت صورتهم بتداعياتها في عالم موازي على السوشيال ميديا، يهيمون في فراغ صنعوه، تائهون يبحثون عن دليل إدانة لأنك تمتلك قلباً محباً ومشاعر إنسانية طبيعية، بل لديهم قدرة على استبدال التعاطف بثقافة عرجاء هي مقارنة مأساتهم بما حدث للتو لغيرهم، يعقدون المقارنات بين الأكثر سوءا والأصعب ظرفاً، والأكثر مرارة، سلسلة لا تنتهي من النواح والمشاعر السلبية تنفتح دفعة واحدة يتذكرونها عندما تلم بآخر مصيبة.
هؤلاء الذين يجيدون الابتزاز العاطفي لتصبح محنتهم فوق كل اعتبار، لا يستحقون أن نبرر لهم، لماذا نتعاطف اليوم مع بيروت في محنتها، ولا أن نشرح عن حجم الأضرار والظروف التي تعيشها مدينة، علمتنا في عز اشتعال الحرب فيها، ووسط خرائبها كيف تطبع الكتب وتقيم المعارض الفنية، كانت تبني ثقافة مغايرة ومتجددة، بيروت المنفتحة على الجميع، أيقونة الجمال، ألهمت الشعراء أجمل قصائدهم لسنا بحاجة لنبرر حبنا لها ودعمنا وتعاطفنا، المحبة لا تفسر ولا تشرح إنما ترى بعين القلب!