عمارة الكرسي
عمر أبو القاسم الككلي
بعد أن بدأت أولى خطوات المشروع، خامرني شك بأن في الأمر خديعة ما، من باب الاستخفاف بمثقفي العالم الثالث. فرغم نزعتي الإنسانية الرحبة واتساع أفقي (والمرء يقول الحق ولو على نفسه) إلا أن روحي الوطنية المستقلة تجعلني، بالمقابل، حذرا إزاء رواسب الرؤية الاستعمارية والمركزية الغربية للغالبية من المثقفين الغربيين، بمن فيهم كثير من التقدميين.
كانت قد وصلتني رسالة من مجلة كندية مغمورة اسمها “من فوق الحواجزOver Barriers ” تعلن عن نفسها باعتبارها منفتحة على آداب العالم وتفتح صفحاتها لنشر أعمال كتاب من مختلف أصقاع المعمورة، تتضمن دعوة لي للإسهام في العدد الذي ستخصصه المجلة لـ: كيف يفهم مبدعو العالم الثالث السيميولوجيا simeology. كانت قَصَّاصة كندية ترجمت لها قصة ذات مرة وأرسلت إليها رسالة أبدي فيها إعجابي بأدبها قد زودتهم باسمي وبريدي الإلكتروني مع، في ما يبدو، كلمة طيبة.
الحقيقة أنني لم أكن أعرف التحدث عن السميولوجيا بأكثر من ثلاثة أو أربعة جمل، رغم أنه يوجد في حوزتي بضعة كتب ومقالات، بالعربية والإنغليزية، تتعلق بها. ورغم صلتي المعقولة بالكتب الفلسفية والفكرية، إلا أنني لم أجد صبرا على قراءة الكتابات المتعلقة بالسيميولوجيا، فقراءتها، بالنسبة إلي، مهمة شاقة تخلو من متعة القراءة، رغم ما تعد به من متعة المعرفة. بحيث تكون المسألة هنا مثل الخضوع لتحمل ألم من أجل اللذة التي تنبثق في نهايته، و هو أمر لست من أولئك الذين ينبرون لتجشم عناء تحمله.
ولكن طلب المجلة مني المساهمة، وهي أول مرة يصلني فيها طلب مساهمة من مجلة أجنبية (في الحقيقة لم يسبق أن وصلني أي طلب من أية مجلة سواها، بما في ذلك المجلات الليبية) جعلني أفكر في الانكباب على قراءة ما بحوزتي من مواد تتعلق بالسميولوجيا.
وبما أنه كان لديَّ وقت، كانت خطة العمل التي تبنيتها تقتضي البداية بمقالات ذات طبيعة تبسيطية شارحة، ثم الانتقال إلى الدراسات الأكثر تعقيدا وانتهاء بقراءة ما لا يزيد عن ثلاثة كتب. ستستغرق القراءة وإعداد الملاحظات، حسب تقديري الأولي، حوالي شهر ونصف وأخصص، حسب تقديري الأولي أيضا، أسبوعين للكتابة.
لكن ما إن قرات مقالتين أو ثلاث، حتى خامرني الشك الذي أشرت إليه، معززا الملل الذي تسلل إليَّ.
إذ ما من ريب في أن القائمين على المجلة يدركون أنه بإمكان أي كاتب أن يقرأ جملة من الكتب والمقالات والدراسات في موضوع يجهله جهلا تاما، ثم يكتب عنه مقالة أو دراسة تكون، على الأقل، مقبولة. وفي الغالب ستكون غالبية المساهمات، في هذه الحالة، شديدة التقارب، لأن كتابها سيكتفون بتناول المفاصل الرئيسية للموضوع و يعودون إلى مصادر ومراجع متشابهة. إن لم تكن نفسها.
إذن فلابد أن القائمين على المجلة يقصدون شيئا آخر ويريدون امتحان نباهة وبديهة كتاب العالم الثالث، أو يريدون إظهارهم بأنهم عالة على الفكر الغربي، حيث إن السميولوجيا هي مجال فكري غربي محض، حتى لو كتب فيه كتاب غير غربيين.
وبما أنني أعتبر نفسي شخصا بالغ النباهة، صممت ألا تنطلي عليَّ مثل هذه “المؤامرة الخبيثة”.
وتذكرت ذلك العصفور الرشيق الأنيق النبيه الذي نسميه في ليبيا (الفقاقي) الذي يلتقط طعامه من فوق سطح الأرض وهو يرفرف في الهواء، فقررت أن أفعل مثله: آكل الطعم وأفلت من الفخ.
لست أدري كيف تذكرت، أثناء انشغالي بالتفكير في الموضوع، حكاية حكاها لي صديق، عن استعمال غير معهود للكرسي. استعمال سيميولوجي.
سأعود إلى الحكاية لاحقا. لكن الآن لابد من مدخل سيميولوجي إليها.
تعرف السميولوجيا بأنها علم العلامات. بداية من علامات المرور والعلامات الدالة التي توضع على اللافتات وصولا إلى اللغة، مرورا بحركات الجسد. وحكاية الكرسي هذه جعلتني أفكر في نوعين من العلامات: 1) علامات عامة، كالمشار إليها أعلاه. و: 2) علامات خاصة، أو اتفاقية، يتفق بشأنها بين شخصين أو أكثر وتكون مجهولة لسواهم. أي تتحول هنا إلى شفرة تواصلية تحمل سرا.
وحكايتنا تنتمي إلى النوع الثاني، إلا أنها منغرسة في النوع الأول.
كان الصديق صاحب الحكاية يسكن عمارة كثرت بها المشاكل في فترة معينة. وكان مثار هذه المشاكل امرأة تعيش وبنتاها الشابتان في إحدى شقق هذه العمارة (وإحقاقا للحق فإن الأم وبنتيها يتمتعن بجمال لافت وحلاوة سيالة).
أحد أصدقاء هذا الصديق دعاه إلى الذهاب إلى لقاء أصدقاء وتعريفه عليهم. في تلك الجلسة دارت أسئلة التعارف مع دوران كؤوس الطلى وما يسوغها من طيبات. فسأل أحدهم الصديق عن مكان سكناه. وحين أجابه هتف الصديق متهللا:
– إذن أنت تقيم في عمارة الكرسي!.
سنعود إلى حكاية عمارة الكرسي، أو كرسي العمارة، هذه بعد، أن نتحدث عن الكرسي بشكل عام.
الكرسي اختراع قديم، يقال أنه يعود إلى أكثر من 5000 سنة. لا يهمنا الآن في أية حضارة نشأ أولا، ولا أفضلياته، صحية كانت أو عملية، وإنما تهمنا دلالاته السميولوجية.
بارتفاع المساحة المخصصة للجلوس من الكرسي على الأرض، فإنه يشي بالرفعة والعلو. فإذا كان ثمة شخص واحد يجلس على كرسي ومَن حوله يجلسون على الأرض، فهذا يعلن بوضوح اختلافه عنهم وتميزه إزاءهم وسيادته، السلطوية أو المعنوية، عليهم. أما إذا كان عدة أشخاص يجلسون على كراسٍ من نفس الارتفاع والتصميم فهذا يدل على وحدة مستواهم بشكل عام.
لذا يبدو أن الكرسي نشأ، أول ما نشأ، مع نشوء الدولة. أي مع نشوء السلطة السياسية، وارتبط بالمناصب الرفيعة والحكم. ينبغي ألا ننسى أن عرش الملك يسمى أيضا الكرسي.
نعود إلى حكايتنا. كانت هذه السيدة تضع أحيانا كرسيا في الشرفة، والدلالة المتفق عليها بينها وبين روادها، أو مريديها، أنها غير متاحة الآن.
وهنا يرمز الكرسي إلى حضور سلطة مانعة. إما السلطة الاجتماعية المتمثلة في رقابة الجيران، أو وجود ضيوف من أقارب أو أصدقاء، أو السلطة البيولوجية الخاصة بجسد المرأة.
وحتى لو كان الاتفاق بينها وبين طالبيها عكس ذلك، أي أن وجود الكرسي يدل على أمن السبيل وانعدام وجود عراقيل، فإن الدلالة لن تختلف كثيرا. إذ تكون الدلالة هنا أنها تجلس، معنويا، على الكرسي الفارغ، وأن مقاليد السيادة والسلطة في يدها. ففي الحالتين كلتيهما يمتليء موضع الجلوس الفارغ من الكرسي بفاعلية سلطة غائبة.