علاقتي بالشعر والقصة
عمر أبو القاسم الككلي
أعتقد أن العربي الذي يبدأ في تلمس طريقه نحو الكتابة، يشرع بمحاولة كتابة الشعر. وذلك، في اعتقادي أيضا، عائد إلى سببين. السبب الأول هو علاقة الشعر بالوجدان العربي والمكانة الخاصة التي يتمتع بها في التاريخ العربي، على خلاف ثقافات أخرى، كاليونانية مثلا، التي يتقاسم فيها المسرح والملحمة الصدارة مع الشعر. صحيح أن المسرحيات والملاحم، وحتى الفلسفة لدى الفلاسفة اليونانيين الأوائل، كان تكتب شعرا، لكن الشعر العربي كان يكتب باعتباره فنا مستقلا غير داخل في جنس أدبي أو فني آخر. السبب الثاني ارتباط الشعر بالحب والغزل، وهما اهتمام المراهق، ذكرا كان أو أنثى، فيجد في الشعر أداة للبوح وتفريغ العواطف بهذا الخصوص.
وأنا لم أكن شذوذا عن هذه القاعدة. كان طموحي أن أكون شاعرا. وحين شرعت في كتابة القصة كنت أنظر إليها كنتاج جانبي يمكنني أن أقوم به في أي وقت ومن باب التسلية.
وحتى عندما نصحني أحد المثقفين المهمين ممن قرأوا قصصي و “شعري”، نصحني بأن أركز على القصة وأستفيد من حبي للشعر ومحاولة كتابتي له في تطوير لغتي القصصية، ولم أنتبه إلى نفاسة نصيحته هذه إلا بعد عدة سنوات!.
بالطبع، لا يستطيع الإنسان، في كثير من الأحيان، الحديث، بأمانة وموضوعية، عن كيفية نشوء ميل معين لديه. والتحليلات والتعليلات، التي يوردها لاحقا، يدخل كثير منها في باب الفرضيات والاستنتاجات وفق وعيه الحالي. ومع ذلك تظل هذه الفرضيات والاستنتاجات مهمة.
بالنسبة إليَّ لم أحس في فترة مبكرة من حياتي بأن ثمة ساردا يسكنني. لم يفصح هذا السارد عن وجوده في أعماقي إلا مع نهايات المرحلة الإعدادية. منذ بدأت أعرف كيف أفك الحروف وأجمعها كان يسكنني هاجس أن أكون شاعرا، كما أسلفت. وحتى عندما بدأ السارد فيَّ يتململ ويلجئني إلى الكتابة القصصية كان يحدوني اعتقاد بأن هدفي الحقيقي أن أكون شاعرا، أما القصة فهي نشاط إضافي.
بداية علاقتي بالكتابة السردية (القراءة السردية كانت أسبق بكثير) يمكن القول أنها حدثت بالصدفة. أظن في السنة الثانية من المرحلة الإعدادية طلب منا أستاذ اللغة العربية كتابة موضوع “إنشاء” يتم التحدث فيه عن يوم مدرسي. لست أدري كيف دفعني تمردي إلى تناول الموضوع بشكل سردي سلبي (لنقل: واقعي، لا يستجيب لما هو مطلوب). تحدثت عن كيف أنهض صباحا مضطرا وكارها الذهاب إلى المدرسة، مستاء من حرماني من متعة نوم صباحات الشتاء، والسير مع الزملاء بنفس نافرة إلى المدرسة، وفي الفصل الملل من الحصص وانتظار جرس الانصراف كي نندفع متزاحمين من أجل مغادرة المدرسة. فوجئت بتعليق المدرس على موضوعي: “أشكرك على كتابة الموضوع بهذه الطريقة”!.
دائما أقول، أنني أعتبر نفسي محظوظا لأن مقدارا كبيرا من قراءاتي الأولى في القصة تصادف أن كان في القصة الليبية. فالقصة الليبية، على خلاف ما يعتقد إخواننا المثقفون العرب (ولا يصدقونه) وكثير من الليبيين، تنتمي، في معظمها، ومنذ نهوضها الناضج بداية خمسينيات القرن الماضي، إلى أرقى ما يكتب في المنطقة العربية. القصاصون الليبيون هم الذين شكلوا القسم الأساس والأكبر من رؤيتي الجمالية القصصية وأعطوا دفعا لاجتهاداتي فيها.