عقدة رئاسة ليبيا: صياغة توازن صعب بين قوى الداخل والخارج
الإسلاميون وسيف الإسلام استحضار خطاب المصالحة القديم بمفردات الحاضر، وصراعات مبكرة تعكس نذر تحالفات متضاربة.
د. خالد حنفي علي
رغم عدم حسم المتطلبات القانونية والسياسية والأمنية لتنظيم انتخابات رئاسية في ليبيا باستثناء عملية تسجيل الناخبين، فإن إعلان كل من سيف الإسلام القذافي، وعارف علي النايض (رئيس مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة) نيتهما مؤخرا المنافسة على المقعد الرئاسي، أثار صراعات عكست نذرا محتملة لتحالفات ممكنة وأخرى غير ممكنة، حال عقدت هذه الانتخابات.
يتركز الجدل الرئيسي حول أحقية سيف الإسلام، الذي لم يظهر حتى اللحظة منذ الإفراج عنه في يونيو الماضي، في الترشح من عدمه، ما بين مؤيد لذلك، باعتباره استفاد من قانون العفو الذي أصدره مجلس النواب في عام 2015، وآخر معارض، كونه لا يزال مطلوبا لدى المحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم إنسانية.
في مقابل التركيز التقليدي من السياسيين وشباب ثورة 17 فبراير على ترشح سيف الإسلام القذافي، ركّز الإسلاميون هجومهم على عارف النايض، السفير الليبي السابق في الإمارات، الذي اتهمهم بدعم التطرف والإرهاب في ليبيا. واعتبروه “مفلسا سياسيا” و“ليس لديه مشروع حقيقي”.
لم يتم التأكيد على موعد نهائي للانتخابات الرئاسية في ليبيا وما إذا كانت ستعقد في سبتمبر 2018 أما لا، إلا أن هذه القضية تتصدر المشهد السياسي في البلاد، فالأسماء المطروحة على طاولة الترشح تتقدم ملامح الوضع في ليبيا وإلى أي مدى سيمضي الشعب في المصالحة، في حال تم تأكيد ترشح سيف الإسلام القذافي، وأيضا إلى أي مدى سيعمل الإسلاميون على شيطنة المرشحين المعارضين ودعم من يمكن أن يفيدهم حتى لو كان سيف الإسلام نفسه، صاحب مبادرة الحوار معهم خلال حكم والده العقيد الراحل معمر القذافي
تزامن ذلك مع تقارير حول استعداد التيار الإسلامي لمعركة الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بدفع مرشح رئاسي مباشر أو مساندة مرشح متوافق عليه بينه وبين الجماعات المتحالف معها، لا سيما مع إدراك هذه الجماعات صعوبة المنافسة على المقعد الرئاسي، في ظل سياق إقليمي مضاد.
وكانت مصادر ليبية قالت لـ“العرب” إن الإخوان بقيادة علي الصلابي يستعدون لإطلاق سلسلة من الاجتماعات في تركيا، والإعلان عن “مشروع وطني للسلام والمصالحة الوطنية”، استعدادا للانتخابات.
ومن الأسماء المطروحة أيضا على طاولة الترشح رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج، وقائد الجيش الوطني خليفة حفتر، بالإضافة إلى عبدالباسط أقطيط، رجل الأعمال الليبي صاحب العلاقات الوثيقة مع قطر والولايات المتحدة، بعد أن حاول إبراز دوره السياسي، عندما دعا إلى حراك سلمي في طرابلس في سبتمبر الماضي. كما تحدثت تقارير عن أسماء أخرى منها محمود جبريل، رئيس الوزراء السابق، وعبدالرحمن السويحلي، رئيس المجلس الأعلى للدولة.
حسابات متعددة
يثير الصراع المبكر حول انتخابات الرئاسة في ليبيا سؤالا جوهريا، وهو: أي الحسابات والعوامل ترجح مرشحا دون آخر، بافتراض أنه سمح للمرشحين بخوض السباق الرئاسي مع آخرين لم يعلنوا حتى اللحظة عن نواياهم للترشح؟
يتعلق العامل المفصلي الأول بمسألة ما إذا كانت انتخابات الرئاسة ستجري قبل أم بعد أم بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية وفي جولة واحدة، وهو أمر لم تحسمه الخطة الأممية، ويشكل ذلك محددا له وزن كبير ومؤثر في طبيعة التحالفات السياسية الداعمة لمرشح رئاسي دون غيره.
وفيما أظهرت الانتخابات البرلمانية في 2012 و2014 تصدرا للتيار المدني على نظيره الإسلامي، قد تشهد انتخابات 2018 استيعابا لأنصار القذافي، ما يعني أن ثمة احتمالا لتغيير التركيبة البرلمانية ولو جزئيا. وحال حدث ذلك، فسيمثل دعما لصعود سيف الإسلام، ويؤشر على أن هناك قبولا شعبيا لخيار المصالحة وعودة أنصار القذافي للحياة السياسية.
أما لو أجريت الانتخابات الرئاسية أولا، فسيجعل ذلك أي مرشح رئاسي ينزع أكثر لبناء تحالف سياسي واسع، كي يحظى بدعم مختلف الكتل السياسية الليبية المتوقع تشكيلها للبرلمان المقبل، وكي لا تمثل كذلك عقبة أمامه وحكومته، كما حدث مع حكومة فايز السراج التي لم تنل ثقة مجلس النواب ولجأت إلى دعم مناطقي ودولي.
وسعى سيف الإسلام الذي يدرك أن تاريخ والده يلاحقه، في مسعاه لكرسي الرئاسة، إلى التحدث بخطاب سياسي توافقي، حيث قال المتحدث باسمه إن ترشحه للرئاسة يستهدف إنقاذ ليبيا، دون إقصاء أو تهميش، أو تدخلات خارجية، وبموجب العفو والحوار والالتزام بالقضاء والعرف الاجتماعي، ولمواجهة ما أسماه “الحقد الصليبي على الإسلام وثروات ليبيا”. عنى ذلك الخطاب أن سيف الإسلام من تشكيل تحالف يضم مدنيين وإسلاميين وغيرهم، معتمدا على خبرته في التعامل مع التيار الإسلامي، عندما لعب دورا في المصالحة بين نظام القذافي والإخوان ما بين عامي 2005 و2006.
ويملك النايض بدوره خلفيات سياسية وثقافية ودينية متعددة يراهن عليها في بناء تحالفات لدعمه في سباق الرئاسة، وبخلاف أنه رجل أعمال برز في عالم السياسة بعد 2011 عبر دعم الثورة، فعمل كذلك سفيرا في الإمارات قبل أن يستقيل في عام 2015، بجانب كونه أستاذا في الهندسة وتكنولوجيا المعلومات، وعضوا في رابطة علماء الدين وترأس مجلس إدارة نادي الأهلي في بنغازي، أحد أبرز النوادي الرياضية في ليبيا، ما يمنحه قاعدة شعبية هامة.
يتعلق العامل الثاني في التوازنات الانتخابية في ليبيا، بالوزن القبلي للمرشح للرئاسة، بحكم ما تمثله القبيلة من اعتبار أساسي في السلوك التصويتي لليبيين.
من يتطلع إلى رئاسة ليبيا يحتاج إلى صياغة معادلة توازنية صعبة بين معسكرين خارجيين يتنازعان على البلاد
وينتمي سيف الإسلام إلى القذاذفة، وهم أقل عددا وتأثيرا مقارنة بقبائل أخرى كبيرة مثل الورفلة أو المقارحة، لكنهم يتوسطون قلب الجغرافيا الليبية، بما يعطيهم فرصة لبناء معادلات تحالفية قبلية على الصعيد الاجتماعي، جنوبا وغربا وشرقا. وإذا تمكّن سيف الإسلام من صياغة تلك المعادلات، فقد تكون حظوظه أوفر.
يشير العامل الثالث إلى الشرائح الثورية والشبابية في ليبيا التي تتوق إلى عدم عودة أي شكل من أشكال الاستبداد، وبناء ليبيا من منظور مدني ليبرالي يعزز الحريات والقانون. وقد تجد تلك الشرائح بغيتها في النايض، الذي طرح في تصريحاته فكرة إحياء ليبيا وإصلاح قطاعاتها المختلفة، بحكم أنه وجه ليبرالي يعبر عن جيل جديد من الليبيين يجمعون بين الحداثة الغربية والأصالة الدينية. لكن يبدو أن معضلة النايض أنه ينال دعما مناطقيا أكثر في الشرق.
يتعلق العامل الرابع بحسابات الموازين العسكرية والأمنية؛ فمن الصعب على أي مرشح للرئاسة في ليبيا تجاهل أن المشير خليفة حفتر يشكل الرقم الأهم في المعادلة الأمنية والعسكرية في شرق وجنوب ليبيا. وبالتالي فإن تأمين التحالف مع حفتر يمثل رسالة لأنصاره تفيد بدعم المرشح الرئاسي المحتمل. وإذا ترشح حفتر نفسه للرئاسة فقد تأخذ المعركة الانتخابية على المنصب سمتا مناطقيا، في ظل معارضة قوية له في الغرب.
الجغرافيا الإقليمية
لا يمكن إغفال حسابات القوى الإقليمية والدولية. فبحكم أن الأزمة الليبية عرفت تغلغلا لهذه القوى الخارجية في موازين التفاعلات الداخلية في سنوات ما بعد سقوط القذافي، فهي ستكون حاضرة بالطبع للتأثير في أي استحقاق رئاسي داخلي.
وتكمن المفارقة في أن طرح سيف الإسلام نفسه لمقعد الرئاسة، جاء عبر مؤتمر صحافي عقده المتحدث باسمه من تونس، رغم أن الوزن النسبي للقاهرة أكبر بمعيار أن لدى القذاذفة وأنصارهم تواجدا سياسيا في مصر، كما حال أحمد قذاف الدم، أو حتى بمعيار آخر، يتعلق بالتأثير المصري في تحالفات شرق ليبيا الأكثر رجحانا في ميزان القوى الداخلي. يمكن تفسير ذلك بأنه محاولة من سيف الإسلام لبعث رسالة إقليمية متوازنة، على أساس أن تونس تتبنى سياسة خارجية أقرب إلى الحياد تجاه المعسكرات الليبية المتنافسة، فضلا عن أن التحالف الحاكم في تونس يتشكل من حركة نداء تونس العلمانية الليبرالية وحركة النهضة الإسلامية، وهو ما سبق أن ألمح إليه القذافي الابن في برنامج ترشحه للرئاسة.
في المقابل، يبدو النايض أكثر ميلا إلى تحالفات الشرق، ومن ثم مصر، وهو ما يمثل قيدا عليه بالنسبة لموقف قوى الغرب الليبي منه، خاصة المدعومة من قطر وتركيا، والتي قد تفضل سيف الإسلام عليه لو وضعت في موضع اختيار بينهما.
يحتاج من يبغي رئاسة ليبيا إلى صياغة معادلة توازنية صعبة بين معسكرين خارجيين يتنازعان على ليبيا، الأول أكثر ميلا إلى حكومة الوفاق وحلفائها في الغرب الليبي، والجزائر وإيطاليا وقطر وتركيا، والآخر يملك علاقات أكثر قوة مع قوى الشرق الليبي، خاصة الجيش الوطني الليبي ومجلس النواب، وتتصدره كل من مصر وروسيا، بخلاف كل من الولايات المتحدة وفرنسا اللتين تنزعان للامساك بأوراق في المناطق الليبية المختلفة.
ولن يستطيع أي رئيس قادم لليبيا إخراج هذا البلد من عثرته ما لم يشكل من حيث أفكاره وتوجهاته وتحالفاته السياسية الحد الأدنى لنقطة اتفاق قوى الداخل والخارج على استقرار الدولة واستعادة مؤسساتها.