عالم جديد على أبواب متعددة
عبد الرحمن شلقم
من الزعيمين الأميركي ريغان والسوفياتي غورباتشوف إلى فلاديمير بوتين
الروسي وترمب الأميركي، تغيرت البلدان، وشهد العالم تحولات كبيرة في كل المجالات.
انهار الاتحاد السوفياتي ومعه الكتلة الشيوعية. في الغرب، أوروبا وأميركا تخلق عالماً جديداً. تطور هائل في الاقتصاد والقدرات العسكرية والعلمية. اليابان مرتبطة بحبال اقتصادية وأمنية استراتيجية مع التكتل الغربي عبر الولايات المتحدة. الصين صارت قوة ضاربة عسكرياً واقتصادياً. أهلت تكوينها السياسي الداخلي بترتيبات جديدة في قمة القيادة حيث صار الرئيس يجلس على كرسي القرار الذي تمتد فترة بقائه عليه إلى أجل غير محدد. تتحرك الصين اقتصادياً في كل أنحاء العالم بسرعة ومدى مبتكر. في أفريقيا ترسل رؤوس الأموال لاستثمارها في هدوء الشخصية الآسيوية. تصدر منتجاتها وتستورد احتياجاتها من الخامات التي تتمدد فوق أرض القارة وتحتها. أميركا اللاتينية بين دول تتحسس إعادة إنتاج ذاتها اقتصادياً وسياسياً، وأخرى تتخبط بين عواصف الشعارات الموروثة، وتعيش شعوبها ويلات المعاناة من الجوع وتتدفق الملايين لمغادرة أرضها إلى رحاب الخارج حيث يلمع بريق الحلم بحياة أفضل. فنزويلا التي تقف على رأس الدول الغنية بثروة النفط، تتخبط في مأساة التضخم الرهيب والفقر والجريمة، أما نيكاراغوا، فالعنف الرسمي جعل من الحياة حلقة عذاب رهيب.
القارة الأفريقية، تنوعت خطوط مساراتها السياسية والاجتماعية. دول نجحت في اقتحام دوائر العصر. نجحت في مغادرة زلازل الانقلابات العسكرية وبدأت في صياغة برامجها السياسية، وحققت الانتقال السلمي والسلس للسلطة عبر الانتخابات مثل تنزانيا والسنغال وغانا وإثيوبيا، وحققت تقدماً كبيراً في التنمية وجلب الاستثمار الخارجي، وأخرى ما زالت تتحسس مساراتها بين النجاح والاضطرابات مثل كينيا والكاميرون ونيجيريا.
ما هو العالم الجديد الذي نسبح في دنياه المتحركة بقوة متعددة السرعات؟ أوروبا التي حكمت الدنيا يوماً، تحاربت في أرضها وخارجها، فرضت قوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية على الدنيا، وصارت قوة عالمية ضاربة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وبلدان شرق أوروبا التي كانت تسبح في فلكه. بعد قيام الاتحاد الأوروبي العملاق صار العالم غير ما عرفته البشرية في العقود بل القرون التي سبقت انتصاب هذا العملاق فوق هام القرار العالمي. خروج بريطانيا العظمى من الاتحاد الأوروبي، رسم ملامح خريطة عالمية قادمة. هل سيستمر هذا الاتحاد في تماسكه بعد الخروج البريطاني؟ هل موجة الشعبوية التي تسيح فوق القارة الأوروبية تشكل الفأس السياسي الذي سيهوى فوق جسد الاتحاد؟ العنصرية الشعبوية الأوروبية التي طفت فوق سطح الحياة السياسية، طرحت أسئلة كثيرة ليس على الأوساط السياسية والفكرية الأوروبية بل على المهتمين بالاستراتيجيات العالمية في مختلف قارات العالم. السياسة التي تقود كثيراً من الدول الأوروبية تحاول إنتاج أنماط جديدة من التفكير السياسي الذي ينعكس على المسارات الاقتصادية والفكرية والاجتماعية، ليس على مستوى القارة العجوز، بل على العالم كله، بداية من الولايات المتحدة وآسيا وأميركا اللاتينية.
إيطاليا التي كانت مخزناً للعقول السياسية ولعبت دوراً في رسم السياسات الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، وقادت إلى تأسيس السوق الأوروبية المشتركة التي تطورت إلى الاتحاد الأوروبي، إيطاليا اليوم تحت قيادة سياسية شابة تعج رؤوسها بشعبوية مندفعة، صارت صوتاً نشازاً داخل الاتحاد، تقاد برأسين هما حركة النجوم الخمسة التي يتزعمها الممثل الكوميدي قريللو، ورابطة الشمال التي يقودها الشاب سالفيني. يرتفع صوت الخلاف بين إيطاليا ومفوضية الاتحاد الأوروبي يوماً بعد يوم إلى حد جعل بعض المعلقين يطلق عليه التمرد الإيطالي. ميزانية البلاد التي تعاني من تضخم ودين عام غير مسبوق وعجز كبير في الميزانية، أدت إلى شبه تصادم بين الطرفين. ألمانيا التي شهدت بروزاً لافتاً لتيار اليمين في الانتخابات الأخيرة بإقليم بافاريا تقف على مفترق طريق حساس، حيث تتسع النزعات العنصرية ضد المهاجرين، وتنبئ بمؤشرات على تشكيل تيار أوروبي يميني متطرف. الأحزاب اليمينية المتشددة في أوروبا تعمل على تشكيل جبهة في الانتخابات الأوروبية القادمة. الوضع الداخلي الفرنسي يعيش حالة اهتزاز مؤثر، النقابات تعترض على برامج الإصلاحات الحكومية، وشعبية الرئيس ماكرون في أدنى مستوياتها. ألمانيا وفرنسا هما الجناحان اللذان يحلق بهما الاتحاد الأوروبي. ألمانيا القوة الاقتصادية الضاربة، وفرنسا القوة السياسية، وأي خلل في بنيتيهما السياسية والاقتصادية سيكون له تأثير كبير على تماسك الاتحاد الأوروبي.
بريطانيا، بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي تدخل مساراً تتكسر فيه الأضواء وتتعدد فيه الألوان السياسية. الخلاف بين الجانبين على ترتيبات ثمن الخروج ومساحة التعامل التجاري وحركة المواطنين والأموال ومستقبل التعاون مع آيرلندا الشمالية، وتهديد اسكوتلندا بالانسحاب من المملكة البريطانية، كل ذلك يكدس الأسئلة حول مستقبل أوروبا ككيان سياسي واقتصادي.
سنة الحياة التطور، وكل حلقة من سلسلة التغيير لها طبيعتها عبر العصور، لكننا أمام دنيا جديدة، تمتاز بالتغير الكبير والواسع عالميا، الملمح الأساسي في هذا التغيير هو مؤشرات التفكك والاختلاف بين الأطراف الدولية الفاعلة، في غياب خرائط ترسم مسارات البدائل لما هو مختلف عليه، خاصة أن التداخل في المصالح يهدد بالتضارب بل التصادم في غياب التسويات والتفاهمات والتنازلات.
تكاثرت الأقفال التي تصنع الموانع على امتداد المسارات، وغابت الأفكار التي تشكل المفاتيح القادرة على فعل الاختراق. لم نعد نرى إبداع العقول الفكرية الكبيرة التي تجترح الحلول للتموضع السياسي الذي تتصادم فيه القوى التي تتحكم في العالم سياسياً واقتصادياً وأمنياً. لم تعد أوروبا هي التي كنا نراها منذ سنوات قليلة، وكذلك روسيا وأميركا. أما بلدان ما كان يسمى العالم الثالث، فهي تحاول إعادة إنتاج ذاتها بسرعات متفاوتة. في انتظار دنيا جديدة تؤسس على ما حققته الإنسانية من تقدم جعل من العولمة أمراً مقضياً.
العالم اليوم في حقبة التغيير الشامل بكل ما يلده من تعقيدات وأزمات تضع الأقفال على أبواب التفاهم بين القوى المتعددة، وتُبقي المفاتيح في أيدي عقول
عصر جديد ننتظر أن تطل بأصواتها كي نسمعها ونراها.
المصدر : الشرق الأوسط