عالم “أحمد يوسف عقيلة”.. “خراريف ليبية” لا تنتهي
أحلام المهدي
تمتلك الصور قدرة رهيبة على السفر بنا عبر الزمن، وأخذنا بعيدا إلى أماكن لم تألفها خطواتنا قط، تماما كما تفعل الكلمات أحيانا، وهذا ما يحدث عندما نزور صفحة الكاتب “أحمد يوسف عقيلة” على فيسبوك، حيث السفر الافتراضي الخارج عن حدود المكان ومقاييس الزمان، لتجد أنك تدخل بيته فعلا، لتعيش تجربة من العناق الأزلي بين الليبي وأرضه التي بزغ منها ليلتصق بها.
إن باب البيت فقط هو ما لم يظهر في صفحة الكاتب، ربما لأنه لا يعترف بالحدود التي تخنق امتداد الطبيعة، لكن زوار هذه الصفحة يعرفون تماما “الخروبة” العتيقة التي تستظل بها مجموعة من الكراسي المتماهية لونا وشكلا مع المكان، يستطيع أحدنا أن يميز أشكال الصبّاريات التي تنمو في الحديقة، وحتى تلك التي وضعها صاحبها في فنجان بني يزين إحدى شرفات البيت.
نعرف مع أحمد يوسف عقيلة أن “تفتّح زهرة في مكانٍ ما لا يجب أن يكون حدثا عابرا”، وصمت الحلزون ليس موتا بقدر ما هو غناء صاخب للحياة، ولا تجزع إذا رأيت جذع شجرة في الجوار، فأحمد عقيلة آخر من قد يقطع شجرة احتمت بحديقته، وما رأيته لا يعدو كونه كرسيا آخر يأخذ شكل الشجرة في رحلتها من الموت إلى حياة جديدة.
عرفت من زيارتي لعالم هذا الليبي أن “الهبسكس” زهرة حمراء خلابة تعيش على أرضنا، وعرفت أن “الخلد” لا يعيش فقط داخل مغامرات “بسيط”، بل يعيش أيضا في مناطق عدة من أرض ليبيا، عرفت كما عرف كل من يتابع هذا العالم الجميل أن “امدللة” فاتحة اللون، أما “فيروز” التي لا تمل من اللعب في مواجهة “الهدمة” وغير بعيد عن المدفأة، فرمادية بعينين عميقتين لا يمكن تخمين لونهما أبدا.
حتى أننا صرنا نعرف الكثير عن مطبخ “أحمد عقيلة” فنستطيع مثلا أن نخمّن مكان “الزيتون” الذي صنعه باستشارة من بعض أصدقائه، وسنميّز بسهولة “الطنجرة والكسكاس” البرتقاليين اللذين أعدّ فيهما “نجيب الحصادي” يوما “الرز المبوّخ”، يغرينا كثيرا منظر “القميحا” التي نقل لنا صاحب البيت إشراقتها في حديقته بعد مطر الخريف الأول، وقد تكون التصقت بذاكرتنا صور أصدقائه التي يتباهى بها ويحتفي بوجود أصحابها في حياته وفي بيته من شعراء وفنانين، وحتى ليبيين بسطاء نحسّ ليبيا بكل تفاصيلها في ملامحهم وحكاياتهم العابقة برائحة الأرض.
تفاصيل كثيرة من جرار وُضعت بعشوائية ساحرة هنا وهناك، وحجارة صُفّت بطريقة لا تخدش انتماءها لطبيعة المكان، حتى نكاد نشك أنها كانت هناك منذ الأزل ولم تبرح مكانها يوما، سياج خشبي مثل لوحة ترابية الألوان، ريحان يحاكي لونُه الأخضر الزاهي عشبَ الحديقة الذي يؤطر المشهد ويملأ الزوايا، أمان نستشعره في كائنات ضئيلة وضعيفة تعيش في الجوار ولا تخشى أن تدوسها أرجل متعثرة أومتسرعة.
إن هذه الصفحةَ نافذةٌ حقيقية على الوجدان الليبي المليء بالحكايات المدهشة عن ارتباط الإنسان الليبي ببيئته، ونأيه بنفسه عن كل ما يعكر صفو الحياة، ولا يتنصل الكاتب فيها من واقع وطنه، لكنه لا يخدش هيبة المكان بالحديث عن هذا الواقع صراحةً ومباشرةً، فنلمح رأيه أحيانا بين كلمات “غناوة علم” كتبها ذات حدث في صفحته، أو حتى في صورة حلزون ساكن أو غراب لا يتوقف عن النعيق، فمن “عناكب الزوايا العليا” و”غراب الصباح” إلى “درب الحلازين”، ستستمر الخراريف الليبية على هذه الأرض وفي هذا البيت ولن تنتهي.