ظروف الأجيال
عمر أبو القاسم الككلي
كل جيل تصوغ إطار ذهنيته العام جملة من العوامل المتضافرة تشمل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المحلية، إضافة إلى ما يتصل بهذه العوامل من الظروف العالمية.
فجيلي، جيل سبعينيات القرن العشرين، أي أولئك الذين ولدوا في النصف الأول من عقد الخمسينيات، تحكمت هذه الظروف في بلورة ذهنيته العامة. لكن المدرسة لعبت دورا بالغ الفعالية لدى العدد الكبر من أفراده. فغالبية آباء وأمهات أفراد هذا الجيل كانوا أميين، وهذا أدى إلى أن تكون المدرسة فاعلة في إحداث شرخ في العلاقة بين الآباء والأمهات، كون أبنائهم التلاميذ اصبحوا يستطيعون القراءة، التي لا يستطيعونها هم، وصاروا يكتسبون عناصر ثقافية ومعرفية لا يعرفونها هم.
فأنا، مثلا، صرت أعرف من السنة الخامسة الابتدائية معنى ما قبل التاريخ وما بعد التاريخ، وأسماء القبائل الليبية القديمة، والفنيقيين والإغريق والرومان. وأعرف الكسور العشرية وكيفية تحويلها إلى كسور اعتيادية والعكس، وأعرف عدد قارات العالم واسماءها وأسماء عواصم عدد لا باس به من الدول، إضافة إلى معلومات أخرى، وهي معلومات لم يكن أبي يعرفها.
وفي فترة الصبا كانت موجة التمرد والتحرر الاجتماعي تجتاح الغرب، مثل حركات الهيبز وثورة الطلاب في أوروبا، فرنسا بالذات. فرمى بعضنا نفسه في خضم هذا التمرد في اللباس وتسريحات الشعر وعدم الامتثال للعادات والتقاليد. ولامست وجداننا حركات التحرر القومي والوطني ضد الاستعمار في أفريقيا وآسيا، وتكون لدينا، بناء على ذلك، شعور بمناصرة هذه الحركات لعدالة مطلبها رافقه موقف معاد للاستعمار، رغم إعجابنا الشديد بحضارة الغرب وتفوقها الصناعي والعلمي. وناصر الذين أخذوا يتلمسون طريق الثقافة والأدب حركة الشعر الحديث باعتبارها حركة تمرد في الأدب وأيدوا التجديد في الفنون التشكيلية والغنائية، بالذات تلك المحتوية على نقد اجتماعي وسياسي وحس ثوري، وصار الإطار العام للفكرين الوجودي واليساري ناظمين لتفكير الكثيرين، على اعتبار أن الأول يعلي من قيمة الحرية الفردية (ما لم تتعدَ على حرية الآخرين) ولكون الثاني يؤكد على قيمة الانتماء للجماهير الكادحة والمهمشة والنضال بينهم ومن أجلهم.