طريق ضيّق إلى عمق الشمال (10)
ماتسوباشو
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
محطة (29): هاغوروسان
في الثالث من يونيو صعدت جبل هاغورو. وقد وعدت، بفضل جهود صديقي زوشي ساكيتشي، بمقابلة الراهب السامي إيغاكو الذي كان يرأس حينها كامل هذا المعبد الجبلي. استقبلني بلطف وأنزلني منزلا مريحا في أحد ملحقات المعبد بالوادي الجنوبي.
اليوم التالي جلست مع الراهب في القاعة الرئيسية لنؤلف قصيدة مشتركة طويلة. كتبت:
مبارك حقا
هذا الوادي الجنوبي،
حيث يتنفس النسيم العليل
نكهة الثلج الواهنة
زرت مقام غونجن في اليوم الخامس. مؤسس هذا المقام راهب يدعى نوجو. إلا أنه ما من أحد يعلم تماما متى عاش. ولكن، على أية حال، فإن سجلات الطقوس والشعائر في فترة إنجي تشير إلى وجود مقام مقدس على جبل ساتو في إقليم ديوا. إلا أن هذا ربما كان خطأ من الناسخ حيث كتب ساتو بدلا من أن يكتب كورو في إقليم ديوا. ووفق كتاب التاريخ المحلي، فإن اسم الإقليم ذاته مأخوذ من واقعة أن كميات من الريش كانت ترسل إلى الإمبراطور سنويا كخراج لهذا الإقليم. لذا، يعد مقام جبل هاغورو (إلى جانب مقام غسان ومقام جبل يودونو والمقام الشقيق على جبل توتوي في إيدو) أكثر المقامات قداسة في الشمال. هنا تعطى تعليمات “التأمل المطلق” في مقامات مذهب التنداي منبعثة مثل أشعة القمر الساطعة، وقواعدُ الحرية الروحية والاستنارة تنور كالمصابيح في الظلام البهيم.
توجد مئات البيوت يمارس فيها الرهبان الشعائر الدينية في صرامة تامة. وبالفعل، الجبل برمته يمتلئ تماما بالإلهام الإعجازي والرهبة المقدسة. مجده لن يتلاشى طالما ظل الإنسان يعيش على الأرض.
محطة (30): غسان
اليوم الثامن صعدت جبل غسان. ربطت حول عنقي حبلا مقدسا مضفورا من الورق الأبيض وغطيت رأسي ببرنس معمول من القطن المنشا وشرعت، صحبة دليلي، في مسير طويل مسافة ثمانية أميال نحو قمة الجبل. سرت عبر الغيوم والسحب متنفسا هواء الارتفاعات العالية المتخلخل وأنا أخطو فوق ثلج وجليد زلقين، حتى بلغت القمة في نهاية المسير، عبر ما يشبه بوابة سحابية مفضية إلى مسارب القمر والشمس، نافد الأنفاس تماما ومتجمدا تجمدا قريبا من الموت. حينها غربت الشمس وتعالى القمر متألقا في السماء. فرشت بعض الأوراق على الأرض وأخلدت إلى النوم، مسندا رأسي إلى أغصان بامبو مرنة. حين أشرقت الشمس ثانية في الصباح التالي، مشتتة السحب، نزلت باتجاه جبل يودونو.
أثناء نزولي رأيت ورشة حدادة بنية محاذية تماما لجدول شحيح. حسب إفادة دليلي، في هذا المكان كان غسان، صانع سيوف محلي، اعتاد صنع سيوفه وتسويتها في مياه الجدول الصافية. وكان يصنع سيوفه بمهارة وعناية ما جعلها شهيرة جدا عالميا. لعله اختار هذه البقعة لورشته لمعرفته بقوة خفية ما كامنة في هذا الماء، تماما مثلما تكمن بالفعل قوة مماثلة في نبع رايسون في الصين. كما أن قصة كانشو وباكويا ليست منبتة الصلة بهذا السياق. لأنها تعلمنا هي الأخرى أنه مهما كان موضوع اهتمامك، فإنه ليس بإمكانك إنجاز أي شيء ما لم تكرس له اهتماما من أعماق أعماقك. وأنا جالس على صخرة أقلِّب هذه التأملات، رأيت أمامي شجرة كرز بالكاد يبلغ طولها ثلاثة أقدام وقد شرعت في الإزهار، قبل موسمها بكثير، ولكن منتصرة على الثلج الثقيل الذي قاومته لأكثر من نصف سنة. وردت على خاطري فورا قصيدة صينية عن “عبق شجرة برقوق في حر الصيف اللاهب” وقصيدة أخرى على نفس المستوى من الشجن للراهب غايسون، وشعرت بارتباطي أكثر بشجرة الكرز الماثلة أمامي. رأيت أشياء عديدة مثيرة للاهتمام في هذا الجبل التي، على أية حال، أتحفظ عن إفشاء تفاصيلها امتثالا لمبادئ عليَّ مراعاتها كحاج. حين عدة إلى مكان إقامتي، سألني مضيفي إيغاكو أن أعبر عن بعض انطباعاتي بشأن الحج إلى الجبال الثلاثة شعريا. لذا كتبت ما يلي على أشرطة ورق كتابة ضيقة زودني بها:
كم هو رصين،
ذلك الهلال الشاحب
فوق الهوة المظلمة
لجبل هاغوروا،
كم عمودٍ من السحب
علا وتحطم، أتساءل،
قبل ارتفاع القمر الساكن
فوق جبل غسان
محرما عليه إفشاء أسرار جبل يودونو المقدسة،
ضمخت كميَّ
بسيل الدموع الكتومة،
الدموع التي اندفعت إلى عينيَّ،
وأنا أخطو واعيا،
على أحجار جبل يودونو المقدسة
كتبها سورا.