طريق ضيق إلى عمق الشمال (6)
ماتسو باشو
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
محطة (19): تسوبو نو إيشيبومي
معتمدا فقط على رسومات كايمون التي كانت بمثابة دليل، تقدمت عبر الطريق الضيق نحو عمق الشمال وبلغت مكانا تنمو فيه نباتات السُعادي الطويلة في تجمعات كثيفة. هذا المكان موطن حصائر السعادي الشهيرة في توفو. فحتى الآن من عادة سكان هذه الجهة إرسال حصائر السعادي المنسوجة بعناية إلى الحاكم سنويا كهدية. وجدت نصب تسوبو نو إيشيبومي الحجري في موقع قديم من قلعة تاغا في قرية اتشيكاوا. كان النصب يبلغ ستة أقدام طولا وثلاثة أقدام عرضا، ومازالت الحروف المنقوشة عليه واضحة على سطحه عند إزالة طبقات الطحلب الكثيفة التي تغطيه. إضافة إلى أرقام تحدد المسافات نحو مختلف الأقاليم. كان ممكنا قراءة الكلمات التالية:
بني النصب بالموقع الحالي في السنة الأولى من جنكي (724) من قبل الجنرال أونو نو أزومابيتو الذي أُرسل إلى الأقاليم الشمالية من قبل جلالته، وعدل في السنة السادسة من تمبايوهوجي (762) من قبل مستشار جلالته الجنرال إيمي نو أساكاري حاكم الأقاليم الشرقية والشمالية.
وفقا للتاريخ المذكور في نهاية النقش، هذا البناء نصب خلال عهد الإمبراطور شومو (724- 749)، وظل ماثلا هنا منذئذ، حائزا على إعجاب متزايد من قبل الشعراء على مر السنين. في هذا العالم دائم التغير حيث تتقوض الجبال وتغير مجراها الأنهار، وتهجر الطرقات، وتطمر الصخور وتفسح الأشجار مكانا للفسائل، فإنه شيء قريب من المعجزة أن هذا النصب وحده نجا من تأثير ألف سنة ليكون شاهدا حيا عمن غبروا. أحسست كما لو أنني ماثل أمام الغابرين أنفسهم شاعرا، متناسيا جميع مكابداتي في الطريق، ببهجة السعادة الغامرة المنبجسة من هذه اللحظة، وليس دون أن تغرورق عيناي.
محطة (20): شيوغاما
أثناء مكوثي قليلا عند نهر نودا نو تاماغاوا وما تسمى الصخرة المبحرة * Rock in the Offing رأيت غابة صنوبر تسمى سو نو ماتسوياما حيث وجدت معبدا يسمى ماسشوزان وعددا كبيرا من شواهد القبور منتشرة بين الأشجار. لقد كان منظرا يبعث الكآبة حقا، في الصغار والكبار، والمحبوبين والمحبين، إذ جميعنا سنذهب إلى مثل هذا المكان في نهاية حياتنا. دخلت مدينة شايوغاما وأنا أسمع رنين أجراس حظر التجول. في الأعلى كانت السماء آخذة في الإظلام، وعلى غير العادة خالية في مايو، وعلى مسافة غير بعيدة من الشاطيء بدا هيكل جزيرة ميغاكي غا في ضوء القمر.
أصوات صيادي السمك وهم يقتسمون صيد النهار جعلني أكثر إحساسا بالوحدة، لأنني تذكرت فورا قصيدة قديمة تمتليء بالشفقة عليهم جراء المخاطر التي تهدد حياتهم في البحر. بعد ذلك في المساء سنحت لي فرصة سماع مغن أعمى يغني على العود. كانت أغنياته مختلفة عن أغاني الهايكي القصصية أو أغاني الرقص التقليدية وكانت تدعى أوكوجوروري (روايات الشمال البعيد الدرامية). عليَّ أن أعترف أن الأغاني كانت صخابة، عندما تؤدى بقربي، لكنني وجدتها لا تخلو مما يبعث السرور، لأنها مازالت تحمل نكهة بساطة الريف القديم.
الصباح التالي نهضت باكرا وتبركت بإله مقام مايوجين العظيم في شايوغاما. هذا المقام أعيد بناؤه من قبل حاكم الإقليم السابق بعرصات فخمة وقناطر ذات رسوم ومجاز حجري يدعو إلى الإعجاب، وأشعة شمس الصباح المنعكسة على السياج القرمزي كانت مبهرة. لقد تأثرت عميقا بتغلغل قدرة الآلهة حتى في الشمال القصي من بلادنا، وانحنيت بتواضع وإجلال أمام المذبح. لاحظت وجود مصباح عتيق أمام المقام، وحسب الكتابة المنقوشة على نافذته الحديدية أنه كان تقدمة من قبل آيزومي نو سابورو في السنة الثالثة من عهد بنجي (1187). فطار تفكيري مباشرة إلى الماضي عبر أمد خمسمئة سنة إلى أيام هذا المحارب الأشد ولاء. لقد كانت حياته دليلا محسوسا على أنه إذا أدى المرء واجبه وحافظ على ولائه، فإن الصيت الحسن يأتي تلقائيا بعد رحيله، لأنه لا يكاد يوجد أحد الآن لا يعتبره زهرة الفروسية.
عندما غادرت المقام كان الظهر يقترب. استأجرت قاربا متجها نحو جزر ماتسوشيما. بعد حوالي ميلين نزلت إلى شاطئ رملي على جزيرة أوجيما.
* صخرة داخل الماء، لكن تمكن مشاهدتها من الشاطئ.