طريق ضيق إلى عمق الشمال 2
ماتسو باشو
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
محطة(2): الرحيل
في الصباح الباكر من 27 مارس أخذت الطريق. كان ثمة ظلام متمهل في السماء والقمر مايزال ظاهرا، على الرغم من أنه أخذ يهن تدريجيا. الظل الضعيف لجبل فوجي وأزهار الكرز في وينو وياناكا، كانت تودعني الوداع الأخير. أصدقائي تجمعوا البارحة وصحبوني جميعهم في القارب ليرافقوني الأميال القليلة الأولى. حين تركنا القارب في سنجو داهم قلبي، على حين غرة، التفكير في الثلاثة آلاف ميل الممتدة أمامي، ولم يعد ممكنا أن أرى منازل المدينة ولا وجوه أصدقائي من خلال عيني المغرورقتين إلا كأشباح.
الربيع عابر
الطيور تنتحب،
الأسماك تبكي
بعيون دامعة
بهذه القصيدة التي تسجل ذكرى رحيلي مضيت في رحلتي قدما، إلا أن الأفكار التي لازمتني أبهظت خطواتي. اصطف أصدقائي مومئين بأيديهم مودعين إلى أن غاب عنهم ظهري.
محطة (3): سوكا
سرت طوال ذلك اليوم، ممتلئا بأمل العودة بعد أن أرى مناظر الشمال النائي الغريبة، لكنني لم أكن مؤمنا فعلا بهذه الإمكانية، لأنني أدرك أن رحيلا كهذا قصد رحلة طويلة في السنة الثانية من جنروكيو سأُراكم فيها فقط الصقيع فوق رأسي وأنا أقترب من النواحي الأكثر برودة. حين وصلت قرية سوكا مساء كانت كتفاي الهزيلتان مدبورتين بسبب حمولتي المتكونة من معطف ورقي ليدفئني ليلا، ورداء قطني خفيف لأرتديه بعد الحمام، وغطاء يحميني قليلا من المطر، وأدوات كتابة، وهدايا من أصدقاء أثيرين. رغبت ألا أثقل حمولتي في سفري، طبعا، إلا أنه توجد دائما أشياء معينة لا يمكنني التخلص منها، إما لأغراض عملية أو دوافع عاطفية.
محطة (4): ميورونوياشيما
ذهبت لزيارة معبد ميورونوياشيما. وهذا المعبد، حسب سورا، مرافقي، مكرس لإلهة تسمى “سيدة الأشجار المزهرة” التي لديها معبد آخر عند قدم جبل فيوجي. يقال أن هذه السيدة أقفلت على نفسها مقصورة تحترق لإثبات الطبيعة الإلهية لابنها الذي حملت به حديثا عندما شك زوجها في ذلك. وعليه سمي ابنها “المولود من النار”. معبدها هذا يسمى المقصورة المحترقة. وكان من عادة شعراء هذا المكان الغناء للدخان المتصاعد، أما الأشخاص العاديون فيمتنعون عن تناول كونوشيرو، وهو سمك منقط يصدر رائحة كريهة عند احتراقه.
محطة (5): نيكو
أقمت في خان عند قدم جبل نِكّو ليلة الثلاثين من مارس. مضيفي في الخان قدم نفسه على أنه غوزايمون شريف، وطلب مني أن أنام باطمئنان تام على مخدته العشبية، لأن طموحه الوحيد كان أن يكون جديرا باسمه. راقبته بحذر، لكنني تبينت أنه شريف صرف، خال تماما من الحذق الدنيوي. كان الأمر كما لو أن بوذا الرحيم شخصيا تجسد على هيئة رجل لمساعدتي في حجي السوحي*. حقيقة، شخص بشرف قديس ونقائه لا ينبغي أن يكون مادة سخرية، لأنه يشارف الكمال الذي حض عليه كونفشيوس.
يوم 13 أبريل صعدت جبل نكو لأتبرك بأقدس معبد به. كان هذا الجبل يدعى نيكو Niko ، عندما بنى الراهب السامي كيوكاي معبدا فوقه. وعلى أية حال غير الإسم إلى نكو الذي يعني “أشعة الشمس الساطعة”. لا بد وأن كيوكاي كانت له بصيرة نافذة تكشف له المستقبل خلال آلاف السنين، لأن الجبل حاليا مستقر أكثر المقامات قداسة وبركته تعم الأرض محتضنة الناس كلهم كما أشعة الشمس الساطعة. الحديث أكثر عن هذا المقام سيكون انتهاكا لحرمته.
تملكتني الرهبة
أوراق غضة، أوراق خضراء
متألقة في الشمس.
كان جبل كيوروكامي يظهر من بعيد خلل الضباب. كان متألق البياض بسبب الثلج على الرغم من اسمه الذي يعني “الشَعر الأسود”.
متخلصا من شعري،
جئت جبل كيوروكامي
في اليوم الذي نرتدي فيه
ملابس صيفية نظيفة.
(كتبت من قبل سورا)
الاسم الحقيقي لمرافقي كاواي سوغورو. أما سورا فاسمه الأدبي. كان يسكن قربي ويساعدني في بعض الأعمال اليومية مثل جلب الماء والحطب. أراد التمتع معي بمرأى ماتسوشيما وكساغاتا، وأيضا مشاركتي متاعب رحلتي التطوافية. لذا استقل الطريق بعد أن حلق حلاقة راهب، في ذات اليوم الذي غادرنا فيه، مرتديا الرداء الأسود الخاص بالرهبان الطوافين، وأكثر من ذلك، بدل إسمه إلى سوغو الذي يعني “المستنير دينيا”. لذا، لم يكن الهدف من قصيدته مجرد وصف جبل كيوروكامي، وإنما تعبيرا عن عزمه الأكيد على متابعة هدفه.
بعد أن صعدنا حوالي مئتي ياردة بعيدا عن المقام، وصلت إلى شلال ينبع من فتحة في جرف صخري ليصب في حوض أخضر داكن في الأسفل. كانت صخور الشلال بارزة إلى درجة أنه تمكننا رؤيتها من الخلف، على الرغم من كوننا داخل كهف غير مستوي الجدران. من هنا كان اسمه: “انظر من الخلف”.
صامتا لوهلة في كهف،
راقبت شلالا
الصيف يتراجع.
* آثرنا هذا الاشتقاق لأنه ترحال صوفي يقصد منه التأمل وترويض النفس بتعريضها للمتاعب والعناء، وليس سياحة ترفيهية.