طريق ضيق إلى عمق الشمال (15)
ماتسو باشو
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
محطة (41): تسوروغا
غابت قمة جبل شيرين البيضاء وفرضت نفسها هيئة جبل هينا بدلا منها. عبرت جسر أساموزو ورأيت بواكير إزهارقصب تيم المشهور. عبرت بوابة أوغويسو الحدودية وممر يونو، لأصل قلعة هيوتشي وأسمع زبيط* الإوز المبكر بالقدوم على تل يدعى الرجوع إلى الموطن. في الليلة الرابعة عشر من الشهر الثامن دخلت ميناء تسوروغا. كانت السماء صاحية والقمر، على غير المعتاد، متألقا. قلت لمضيف الخان “آمل أن يكون الوضع على هذا الحال ثانية حين يكون القمر بدرا”. فأجاب “الطقس في هذه الأنحاء الشمالية سريع التقلب حد أنني، رغم خبرتي، يستحيل عليَّ الكلام حول ما ستكون عليه السماء غدا”. عقب محادثة سارة معه حول قنينة نبيذ، ذهبنا إلى مقام مايوجن في كاي، الذي بني إكراما لروح الإمبراطور تشواي. كان سكون الليل قد أخمد الأصوات داخل المقام، ونشر القمر أشعته المتألقة، نافذا خلال أوراق الصنوبر الإبرية، على الرمال البيضاء أمام المذبح، فبدت الأرض كما لو أنها مغطاة بالصقيع المبكر. مضيفي أخبرني أن يوغيو الثاني، الراهب المسؤول عن الحج، هو الذي بدأ بحش العشب وأحضر الرمل والأحجار، ثم جفف المستنقعات من حول المقام. وأصبح ذلك طقسا يسمى “احتفال يوغيو لحمل الرمال”.
كان القمر يتألق
في صفاء إلهي
فوق الرمال
التي أحضرها الراهب يوغيو.
ليلة الخامس عشرة أمطرت، تماما كما توقع مضيف الخان.
السماء المتقلبة
في الأنحاء الشمالية
حرمتني من رؤية
بدر الخريف.
محطة (42): آيرونوهاما
عاد الجو رائقا في اليوم السادس عشر. ذهبت إلى “الشاطيء الملون” لجمع بعض الأصداف الوردية. أبحرت مدى سبعة أميال على متن قارب ووصلت الشاطيء في وقت قصير، بمساعدة ريح مواتية. رجل يدعى تنيا كان رفيقي، مع خدم وطعام وشراب وكل ما خطر على باله أننا سنحتاجه في مشوارنا. كان الشاطئ منقطا بعدد من أكواخ الصيادين ومعبد صغير. بمجرد أن جلست في المعبد أشرب الشاي الدافئ وخمر الساكي طغى علي توحد المنظر المسائي.
أكثر عزلة من شاطيء سوما،
فكرت،
اقتراب الخريف
على البحر أمامي
مختلطا بالأصداف الصغيرة
ورأيت نويرات برسيم متناثرة
تتدحرج مع الأمواج
طلبت من توساي تلخيص أحداث اليوم وتركها في المعبد كذكرى.
محطة (43): أوغاكي
حين عدت إلى تسوروغا، التقاني روتسو وصحبني إلى إقليم مينو. حين دخلنا مدينة أوغاكي على متن جوادين التحق بنا سورا مجددا قادما من إقليم آيز. اتسوجن هو الآخر جاء مسرعا على ظهر جواد وذهبنا جميعا إلى بيت جوكو، حيث سعدت باللقاء من جديد مع زنسن وكييكو وأبنائه وعدة أصدقاء قدامى آخرين جاؤوا ليروني ليلا ونهارا. الجميع ابتهجوا ابتهاجا بالغا لرؤيتي، كما لو أني من الموت عدت فجأة. يوم ستة سبتمبر، غادرت نحو مقام آيز، رغم التعب الذي مازال ملازما لي من هذه الرحلة الطويلة، لأنني أحببت أن أرى تدشين مقام جديد هناك. بمجرد أن اعتليت الزورق كتبت:
مثلما تتداعى في الخريف
رخوية البطلنوس الملتحمة بصدفتها
علي أخذ الطريق ثانية،
وداعا يا أصدقائي
حاشية الناسخ
كتيب الرحلات هذا، يضم كل ما تحت السماء. ليس فقط ما هو عتيق وجاف، وإنما أيضا ما هو غض وزاه، ليس فقط ما هو قوي فارض نفسه، ولكن أيضا ما هو واهن وزائل. حين نقلب كل زاوية من زوايا “طريق ضيق إلى عمق الشمال” فإننا ننهض أحيانا لا إراديا مصفقين وأحيانا نقع منطرحين لمقاومة الآلام المكربة التي نشعر بها في حشاشة قلوبنا. أحيانا أخرى نشعر كما لو أننا نحن من يسبر على الطريق، قابضين على معطف المطر، وأحيانا أخرى نشعر أننا جالسون حتى تضرب أرجلنا جذورا، مبتهجين بالمشهد الذي نستحضره أمام أعيننا. هذا هو جمال هذا الكتيب الذي تمكن مقارنته بالجواهر التي يقال إنها تنشأ عن الدموع المنسكبة من أعين حوريات البحار البعيدة. يا لها من رحلة تلك التي سُجلت في هذا الكتيب، ويا له من رجل ذلك الذي خَبِرها. الشيء الوحيد المأسوف عليه أن مؤلف هذا الكتيب، هذا الرجل العظيم، بلغ الشيخوخة في السنوات الأخيرة وصار مرتجف اليد وعلى حاجبيه صقيع**.
بداية صيف السنة السابعة من حقبة جنروكو (1694). سوريو
* صوت الإوز.
** الصقيع هنا كناية عن الشيب.