طريق الحرير الصيني في مواجهة أسوار اليمين الليبرالي
سالم العوكلي
في الوقت الذي بدأت تتبنى فيه القوى الليبرالية الرأسمالية (الديمقراطية) الكبرى سياسة بناء الأسوار بين الأمم والأعراق، تنفتح الصين الموصوفة بأن أيديولوجيتها مغلقة على العالم مخترقة سورها الأسطوري القديم الذي تحول إلى مجرد معلم سياحي يشير إلى زمن العزلة والخوف من الأمم الأخرى، لتنعش من جديد ذاكرة التواصل الإنساني بإحيائها طريق الحرير عبر ما تسميه “مبادرة الحزام والطريق”. ذلك الطريق التجاري الشهير الذي لم يسهم فقط في نقل البضائع إنما في نقل الثقافات بين الغرب والشرق.
في مواجهة سور ترامب بين أمريكا (حاملة مشعل الحرية) والمكسيك، وفي مواجهة السور الإسرائيلي لعزل الفلسطينيين، وفي مواجهة الخطاب اليميني الأوروبي لسور مقترح للفضاء الأوربي ضد المهاجرين من الجنوب، تتجه الصين صوب إنجاز أضخم مشروع في التاريخ لإنشاء بنية تحتية تربط بين قارات العالم عبر السكك الحديدية والطرق المعبدة والموانئ البحرية، بما يقدر بألف مليار دولار.
كشف الرئيس الصيني شي جين بينغ العام 2013 خلال زيارته لأندونيسيا وكازاخستان، ومن ثم رئيس الوزراء كي تشيانغ عبر زيارته لدول من آسيا وأوروبا ، عن هذا المشروع الكوني الذي يستثمر عبر شراكات دولية في البنية التحتية والتدريب ومواد البناء والسكك الحديدة والأوتوسترادات والسيارات والعقارات وشبكات الطاقة والحديد والصلب، وتشمل هذه المبادرة التاريخية 68 دولة، و70% من سكان العالم.
سبق للصين أن نقلت استثمارات كبرى إلى وسط وجنوب أفريقيا أشاد بها المسؤولون الأفارقة الذين يعتبرون الصينيين أقرب إلى خصائصهم من حيث التواضع وعدم التعالي والإسهام المجدي في أعمال تنمية وتدريب حقيقية، وسجلت التجارة الصينية مع أفريقيا منذ بداية الألفية الثالثة وحتى العام 2010 ارتفاعا يقدر بـ17 ضعفا لتصبح أكبر شريك تجاري لأفريقيا خلال هذه السنوات. وفي عام 2017، ارتفعت تجارة الصين مع أفريقيا بنسبة 14٪ على أساس سنوي، لتصل إلى 170 مليار دولار أمريكي، واستمرت وتيرة النمو السريع حتى النصف الأول من عام 2018 ، حيث قفز حجم التجارة 16% إلى ما يقرب من 100 مليار دولار، خلال الستّة شهور الأولى، في حين ارتفعت استثمارات الصين في أفريقيا بأكثر من 100 مرة منذ عام 2000 وحتى نهاية عام 2017.
على ضفة المتوسط الأخرى، وبداية من إيطاليا، تباشر الصين ترميم طريقها التجاري القديم، باعتبار إعادة الحياة للموانئ الإيطالية الواقعة على طريق الحرير البحري يشكل صلة مهمة بالمجال الأوروبي، ومن ثم الشمال أفريقي ليكتمل الحزام، وتطرق رئيس الحكومة الإيطالية جيوزيبي كونتي إلى ميناءَي تريستا وجنوى باعتبارهما مرشحين للحصول على التمويل الصيني. وقال مؤلف الكتاب الموسوعي “طرق الحرير. تاريخ جديد للعالم” الباحث والمؤرخ البريطاني بيتر فرانكوبان لمحطة بي بي سي “هذه الخطوة التي تبدو عديمة الضرر جاءت في توقيت حساس بالنسبة لأوروبا والاتحاد الأوروبي، إذ تسود مشاعر قلق ليس إزاء الصين فحسب، بل الكيفية التي ينبغي أن تتعامل بها أوروبا أو الاتحاد الأوروبي مع عالم متغير”. من جانبه، قال نائب وزير التجارة والاستثمارات الإيطالي ميشيل جيراتشي: “من وجهة نظرنا، هذه فرصة لشركاتنا لاستثمار النفوذ الصيني النامي في العالم”. وأضاف: “نشعر أننا مهملون من قبل شركائنا الأوروبيين، وقد أضعنا قدرا لا بأس به من الوقت”.
وكتب الرئيس شي في مقال نشرته صحيفة كورييرا ديلا سيرا الإيطالية “عبارة صنع في إيطاليا أصبحت عنوانا للسلع عالية الجودة، كما تلائم الأزياء والمفروشات الإيطالية أذواق المستهلك الصيني، ويعشق الشباب الصيني الطعام الإيطالي، كالتيراميسو والبيتزا”. من جانب آخر، عبر سياسيون من حزب الرابطة اليميني الإيطالي الحاكم عن مخاوفهم حول الأمن الوطني جراء الاتفاق، وحذر وزير الداخلية ماتيو سالفيني بأنه لا يريد أن يرى الشركات الأجنبية وهي “تستعمر” إيطاليا.
وتروج الصّين لاستخدام (اليوان) في التّعاملات التّجاريّة والمشاريع، حيث أن اتساع استخدام عملتها يجعلها عملة احتياطي وعملة صعبة، ومن بين جهود الصّين أيضاً فتح بورصة لتداول عقود النّفط باليوان الصّيني، لذا فإنّ (اليوان الصيني يهدد الدولار) لأن الصّين أكبر مالك للاحتياطات الأجنبية بـ 3 تريليون الدولار، وهو الثّالث بين العملات الأكثر استخداماً كاحتياطي لدى صندوق النّقد.
ما يعنينا في كل هذا أن طريق الحرير يصل إلى الضفة الشمالية المواجهة لليبيا. ليبيا التي أحيطت بأسوار رمزية تجاه العالم لعدة عقود من قبل النظام المصاب بفوبيا الأجانب، ما جعلنا نعتمد كل هذه العقود على مصدر واحد ريعي للدخل، لذلك ستشكل الجغرافيا الليبية حلقة وصل مهمة لتكتمل دائرة هذا المشروع الاقتصادي الضخم الذي من شأنه أن يفكك الكثير من اللوبيات المشبوهة المسيطرة على تجارة العالم، ويقلص من هيمنة الدولار الأمريكي كعملة متسلطة قادرة على فرض العقوبات الاقتصادية على شعوب العالم بحجة معاقبة الحكومات المارقة.
تواجه ليبيا محطة (الحزام والطريق) في الشمال بساحل طوله أكثر من 2000 كم لم نستفد منه منذ مئات السنين سوى كونه معبرا للغزاة الذين حطوا على شواطئه أو مكبا لمجارينا ونفاياتنا، لذلك وضع خطة ليبية للتعامل مع هذا المشروع الضخم سيشكل نقلة كبيرة في اقتصاد وتنمية وسوق عمل الدولة وانفتاحها على هذا المتغير الجديد في استراتيجيات الاقتصاد العالمي، وبالإمكان الربط بين الشمال وجنوب الصحراء عبر طرق القوافل القديمة أو ما يسمى (طريق الملح) لإكمال طريق الحرير، ما سيسهم في شراكة ليبية مع الصين من أجل ربط غرب وشرق وشمال وجنوب ليبيا بخطوط للسكك الحديدية وطرق سريعة إضافة إلى إحياء الموانئ على الساحل الليبي الذي مازال بكرا لتفعيل تجارة العبور كأحد أهم الموارد المعطلة، وإنشاء محطات ضخمة للطاقة بما فيها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وتوفير مئات الآلاف من فرص العمل، والأهم من ذلك تأمين الجنوب الليبي عبر بثّ حركة تجارية وتنموية ما يسهم في حفظ الأمن القومي لليبيا وتوطيد دعائم وحدتها عبر هذه الشبكة. ثمة دول في الشمال الأفريقي تنافس بقوة للدخول على خط هذا المشروع الجيواقتصادي ، ولكن ما سيشجع الاستثمارات الصينية على الشراكة مع ليبيا، هو الموقع الهام وإمكانات ليبيا الاقتصادية وثرواتها التي تشكل استثمارا مهما في هذا المشروع بما يعود على الليبيين بانتعاش اقتصادي وتحفيز للقطاع الخاص ومن ثم تنويع مصادر الدخل كعامل مهم للولوج إلى التنافسية في مستقبل الاقتصاد في العالم والمنطقة، ونقل بنية الاقتصاد الليبي إلى طبيعة محابية لاستحقاقات الدولة الديمقراطية التي لا يمكن أن تتحقق في ظل اقتصاد ريعي منغلق.