طرابلس جميلةٌ رغم حزنها
طه البوسيفي
من اللحظة التي تطأ فيها قدماك أرض طرابلس، تشعر أنّ نوافذك صارت مشرعة على الحياة، طرابلس مزاج مختلف في كل شيء، حتى في أوقات حزنها تحبّ أن تكون مرتاحة البال، ترفض أن يعكّر صفوها الغلاء الفاحش في الأسعار والحالة الأمنية المترنّحة، التي يصعب أن تقيّمها تقييماً مطلقاً، نظراً لغلبة المتغير على الثابت، وعدم إدراك مَن يقبضون على مفاصلها بأهميتها تاريخياً وسياسياً.
لا شكّ أنّ طرابلس اليوم أصبحت أفضل ممّا كانت عليه قبل سنتين على سبيل المثال، منسوب الأمن أصبح أكثر ارتفاعاً، المدينة تشهد استقراراً نسبياً لم تعرفه منذ اندلاع عملية فجر ليبيا المنقلبة على صندوق الانتخاب في 25 يونيو التي تفرق قادتها وتشرذموا ، منهم اليوم من أغرته المصالح ومنهم من تشدّد في ما يصفه بالمبادئ، فخنقته مبادئه وصار عملياً خارج حسابات اللعبة السياسية.
الوضع في طرابلس بمقدورنا أن نكتب عنه من جانبين: جانب متعلق بالحالة الأمنية، وجانب يمس مباشرةً وضع المواطن المعيشي، حيث تنهشه أنيابُ الأسعار القاطعة… يرفع المواطن السلعة، يقرأ سعرها، ثم يطأطئ رأسه مرجعاً إياها لمكانها قائلاً لها بكل أسف: “إلى لقاءٍ في جنات الخلد”. لتَصدق بذلك النكتة المصرية التي تجسد الكوميديا السوداء، فعلاً هو ضحكٌ لكنه كالبكاء على قول المتنبي.
أسعار السلع أصبحت أضعافاً مضاعفة، أضف إلى ذلك شح السيولة وقلة المرتبات، هنا يأخذنا الحديث على مأساة الطوابير الطويلة أمام المصارف التي تبدأ منذ ساعات الليل المتأخرة مستمرةً إلى ظهيرة اليوم التالي، أعداد الواقفين تتجاوز المائة، زادهم الأمل في بضع مئاتٍ من الدنانير التي “طاح سعدها” لا تكفيهم أساسيات العيش من السلع التموينية ناهيك عن ثمن العلاج، دواءً كان أم موعداً مع طبيب في عيادة خاصة، حيث لن يكون بوسعك سوى أن تقطع جسدك بالسكين لتأخذَ وزنه مالاً تدفع به فاتورةَ علاج.
في طرابلس تجد المقاهي مكتظةً بالمرتادين الذين يُنفسّون عن أنفسهم بقضاء ساعاتٍ من اليوم يتناولون الشأن العام سياساً ورياضياً واجتماعياً ، وكل ما هو مثير في حياتهم ذات الحلم البسيط والأمل المتراجع حد الحقوق. ليس ذلك سلبيةً منهم إنما لأنّ المدينة تفرض عليك أنْ تكون وادعاً في حضرتها، طرابلس هادئةٌ وباردةُ العقل، لا تفكر دائماً بعقل مندفعٍ ساخن. وهنا أتحدث عن العقل الجمعي بتعبير “إميل دوركايم” أحد أقطاب علم الاجتماع الحديث.
طرابلس جميلة على الرغم من الحزن الذي تعيشه، على الرغم من الوعود الكاذبة التي قطعت عليها من قبل المتسلقين الواصلين إلى مآربهم عبر أكتافها، حملتهم فأسقطوها، كبّرتهم فطعنوها، علمتهم الشعر ونظم القوافي فهجوها بكل صفاقة و”صحة وجه” .
ستبقى طرابلس طرابلس، المدينة الهادئة الوادعة، ليس جبناً منها أو تخاذلاً من سكانها، إنمّا لأنّ قلب العاصمة يسع الجميع ويتحمل الإساءة ولكن ….. احذروها حين تغضب.