(صياغة الروح)
المهدي التمامي
في ذلك الغسق البعيد في فزان تحلق الناظرون وأعناقهم ترتفع في اتجاه الشمال الغربي.. لم يطفئ الأفق الوسنان جمرته العريضة بعد… كنت مثلهم أرقب شعرة الهلال الخفية في ذلك الأرجوان العالي.. تزاحم بعدها الجميع حول نقطة واحدة وقف فيها ذلك (الشبّاح) صاحب البصر (اليمامي).. وهتف بلهفة وصفاء “هوينه الهلال”.. ردد الجميع بركاتهم وهم يعيدون أعناقهم إلى طبيعتها في جلال صامت.. ويمسحون وجه الروح بدمعة من المهابة الغضيرة.. تكفي لإيقاظ الملائكة الغافية في مهود أعماقهم.. كيف لهذا القبس أن يقول ما عجزت عنه كل الفلسفات؟!
لقد أيقنت في ذلك الصوم البعيد أن القلب أرحب الأمكنة على الإطلاق.. وأن أولئك الشيوخ كانوا يصعدون إلى حياة عليا لم أكن أعرفها من قبل، أنا المفتون بالدراسات العلمية المعقدة آنذاك، أتابع ثورة الهندسة الوراثة، وامتص رحيق كتب دراستي العلمية، ملبياً نداء شغفي الأبدي للوصول إلى معرفة تتجسد كياناتها في واقع حي..
إلا أن حقيقة الحياة التي بدت لي بعد تلك القراءات العميقة، ليست في البحث عن اليقين، بل في التصدي لتلك الأسئله المشرعة على الدوام، والعبور من خلالها إلى فضاءات أخرى يركض فيها الرائي في رحلة آئبة كدولاب الماء.. باحثاً عن شيء لم يحدث.. إضافة لذلك السعي الفطري نحو العثور على مصادر الموسيقى، وضبط الإيقاع العام للحياة الموازية على تقاسيم الخلود، بعيداً عن الارتهان لذائقة نسقية تعتمد رمزية تدميرية صارمة، بينما تنمو على الحافة المهملة أزهار أكثر تفتحاً بالأسرار الجديدة..
لم أنس ذلك المشهد الآسر، وكأن أبواباً إلهية تفتحت في مكان ما في تلك الليلة.. رأيت وجوداً آخر خلف الوجود.. حياة أخرى تقود إليها بوصلة الطرق السرية الكبرى.. إنها البصيرة وهي تقود البصر إلى ما عجز عن رؤيته.. كانت الحياة تستنفد الواقع.. من هنا لجأت إلى كثافة المجاز.. لأذرع بعداً بلا مسافة، البعد الماورائي.. لأصنع الجمال في غموضه الساحر.. وهو يتجلى ظاهرياً في توازيه مع الحقيقة.. في جوهره المجرد، جوهره الحتمي الذي لا يعود..
إنها معجزة الشعر في مداورة الأشياء، فالشاعر لن يسطيع أن يكون شاعراً إلا إذا صارت الحياة عنده نوعاً من الحلم، ومن هذا المنطلق يصعد الشاعر، محلقاً بأجنحة أحلامه، رغم أنه يعود من هناك بذات الواقع بعد أن جعل منه أفقاً جديداً موازياً.. ليصل إلى إحدى السعادتين المقسومتين بين بورخيس (السعادة الإعجازية).. وأكتافيو باث (السعادة المأساوية).. مذهولاً بمشيئة المسير في درب الرتق لمكامن العطب في هواتف الينابيع الأولى.. كل ذلك عبر اللغة، منها وإليها، في لا نهائتها المنعقدة بين كلمة وكلمة.. بل بين انبجاس حرف وحرف مسافة للاحتراق، والاختراق.. وهو يكشف كنوز طفولة غائبة بفعل سلطة الذكاء الذي يفضي إلى لغة محجبة، بينما تعود اللغة لشعريتها المفقودة في هيامها الأقصى فجأة عند باب الله..
هذه هي الحياة إذن، لعبة الدقيقة الغاضبة “التي لا تغفر لأحد” كما يقول كابلينغ.. أو كما يقول طرفة بن العبد “كنز ينقص كل ليلة”.. ومع ذلك فثمة جمال معصوم لا يشيخ، ولا تغرب جاذبيته، يشع مع كل نبضة جديدة.. إنه الجمال الذي يستحيل على الأخلاق أن تستنقذه من قلوب العصاة والمجرمين.. وتعجز الكلمات الأكثر بهجة وسطوة على مجاراة حضوره الأبدي، ففي جلاله تتدفق العذرية الأبقى التي تنعس في ظلالها الآلهة، وتتخلق فيها حياتنا المبرأة من إثم الحياة..!