“صفحة من كتاب الغُربة”
مازن رجوبة
عند الاستيقاظ ، أبحث عن صوت أمي وهي تتحدث مع خالتي على الهاتف ، وعند الآذان أحن لصوت أبي وهو يطالبني بتجهيز نفسي للخروج للمسجد.
أحن لاهتمام يرن على هاتفي بشكل صديق يريد الجلوس معي ، كم أحن لتلك التحية التي تأتي بمزمار سيارة صديقي عندما رآني أتمشى على جنبات إحدى طرقات العاصمة.
الغربة بلا عيد، رمضانها ليس كرمضاني بين عائلتي، ومقهاها ضيق ليس كذلك الذي يجمعني وأصدقائي.
الغربة براح بلا قيود، وكأنها لا تدري بأني لا أنسجم في بيئة اللا انضباط ، أراه سببًا كافيًا لأنفرَ من محتوى كتاب اسمه ” سفر وبعد ” لو علم الراغبون في قراءته بما يخبؤه في محتوى فصوله لأحرقوا المكتبات التي تبيعه.
الغربة امتحان، امتحان صبر لمدى قدرتك على العيش دونما أن تلمس يد أمك أو تقبل رأس أبيك أو تجاور أختك في حديث لو عرفت قيمته سابقًا لأمضيت كامل دقائقي وأنا أستمع لحديثهن، مسؤلية للعب دور الأب على ابنك لتستطيع العيش بذات الانضباط وكأنك في بيتك الذي تشتاق.
الاهتمام في الغربة غالبًا ما يكون اهتمام مصلحة ، مضيعة وقت وتفويت أوقات ملل ، الاهتمام بمقابلتك لن يكون في غير هذه الحالة ، دون التغافل عن اهتمام الزملاء في حالة تأخري عن دوامي لأكثر من ساعة، هكذا هي قوانين الغربة ونصوص فصل الاهتمام فيها.
بقدر تفهمي لطبيعة هذا الاهتمام ومبادلتي إياهم كامل التفاصيل إلّا أني اشتقت فعلا لطرق باب غرفتي وفتح الباب من أختي القائلة : هل من شيء أحضره لك قبل دخولي الفراش؟ هل من قميصٍ يريد الكي أجهزه لك، في الغربة لا يوجد لقاء بلا موعد مسبق يجمعك بصديق في إحدى المقاهي ذات صباح، ولا اتصال من أمك التي دخلت لغرفتك للتأكد من رجوعك وتفاجأت بأنك في سهرة، عندما كان التأخر في العودة يوفر اتصالا من والدك المتعصب.
مع كل وقفة على المرآة ، أسأل نفسي متى العودة وأجهز حديثي الذي سأخوضه مع كل من اشتقت له وأتقنه وأتدرب عليه .
الغربة علمتني عد الأيام والنظر إلى تاريخ اليوم رغم علمي المسبق والراسخ في تقويمي الداخلي الذي صار كساعة رملية رملها مبتل بأمطار سحب الشوق ، بلته وجمدته ، فهل من شمس على هيئة تذكرة ترطب الرمل وتعطي الإذن بصعود الطائرة وسماع صوت الكابتن وهو يحكي خارطة الرحلة المتوجهة إلى هناك
وكل الأغاني تشبهك وألحانها حزينة وابتسامتها
وأغاني الشوق مقترحة أولا في يوتيوب وأنغامي بل حتى بلقيس اختارت من منتصف فترة ولايتي الأولى في الغربة موعدا لإصدار ألبوم “حقير الشوق”
رغم قسوتي على الغربة بهذا الكم من الكلمات لا بد من إعطائها حقها كيف لا وهي الامتحان الأكثر شمولية فهي العرض والإغراء، وحتى الشوق سار بي ليرسم لي جدول يومي الأول فور الهبوط بمدينتي رغم عدم علمي بموعد النزول هناك.
أنا من قال لي اتركها مفاجأة ولا تقل لأحد ، واطرق الباب وكأن بضيف من غير موعد جاء للزيارة وعش يا أنا معهم تفاصيل الوصول ولَك أن تتخيل المشهد.
وسادة الغربة ليست بمريحة، وسريرها يُقلب ونومها ليس عميقًا، هواؤها كتلة ، ماؤها يزيد العطش، وحبر قلمها متدفق، أذنها صماء، صوتها لا يُسمع ، نكدية، عذراء تريد من يتحرش بها، فاسدة تدعي المثالية، تعاشرك مطالِبة ولا تعطيك بزيادة.
الغربة فتاة متعطرة مغرية أقرب إلى الفتنة، تستفز داخلك لتأتي وما إن وقعت في فخها إلى أن تكون اكتشفت المقلب وتقول: مضحوك علي وأنا مقتنع، مقتنع بشيئين: أول الأشياء فتنتها التي لا تقاوم، وثانية بحجم الأضحوكة التي فيها وقعت.
هل من ناقل حيٍ للصوت يأتي بأمي متكلمة على هيئة لقاء حي يقرب المسافة ويقطع الأجواء؟
هل من وحدة قياس تقصّر المسافة بيني وبين بائع القهوة في مدينتي، هل من دالٍ أو زاجل يحمل الرسالة بدموعها، هل من نوم عميق يسرق فكري لأستيفظ وأنا على فراش غرفتي، أو من طباخ بارع يطبخ ما يرسم مسير شهيتي وكأني لباب مطبخِ بيتنا داخل.
هل من ملهٍ متحدثِ، يفتح من الأحاديثِ أطيبها ويمتلك من القصص أبرعها
…