“صحة فطورك”..
مروان العياصرة
هذا يومُ رجلٍ “طرابلسي” مثابر ووحيد..
رمضانات كثيرة مرت عليه ولم يفته سحور واحد، يحبُّ الليل الطرابلسي الممتد إلى الفجر، يرفع الشيخ الآذان، فيحبس آخر رشفة “شاي” مع آخر نفس سيجارة.. يقف على الشباك المطل على شارع “ميزران”، يحمد الله، ويصلي على النبي،.. ويمسح وجهه بيديه الخشنتين..
لا يعرف كيف صارتا خشنتين إذ لم يجرب بهما غير القلم، وتقليب الورق، وطهو القهوة.. قبل أن يفقد امرأته وصبية بعمر وردة يانعة وولد نحيل..
صار وحيداً، وهذا رمضان الخامس الذي يقضيه وحيدا، ألِفَ الوحدة والحرب وصوت الرصاص، وعرف كيف أنشبت السياسة الشرسة أنيابها بأحلام الناس وذاكرتهم وذكرياتهم.. لكنه قد لا يعرف متى “يتفرّى الليل عن صبحه، ويسفر الحق عن محضه”.. كما كان يردد.
عند الظهيرة، يمرُّ في السوق، الجالسون على أبواب المحلات يتفرسون وجوه الناس، يتساءل بسذاجة مقصودة، كيف صار المواطن لاجئا، وكيف ولدت على حواف المدن التي هي لنا كلنا، مخيمات، وكيف مات من مات بلا سبب، ولا عتب، وكيف يعيش من صمدت روحه وذاكرته أمام اهتزازات الحياة الجديدة على كل الليبيين الذين لم يختبروا الحرب إلى هذا الحدّ من البشاعة، ولم يختبروا السياسة إلى هذا الحد من الأنانية..
اقترب المساء..
كل حواسِّه مستفزة..
طيلة خمس سنوات والهدوء يشوِّش الضجيج العائلي المحبب الذي اعتاده مع طفليه وزوجه، صار لديه أولادا لا يعرفهم، يملأون البيت صراخا لذيذا، وحين تستثيره ضحكاتهم، يقفل عليهم “التلفزيون”، ويستسلم للوحدة..
يؤذن “المغرب” .. يُعدُّ إفطاره على عجل، وبحرقة لاسعة في صدره المتحشرج بالحزن، وبعينين ضيقتين إلى الحد الذي يحبس فيهما دمعا عزيزا، كي لا يفضح صبره وصموده ورضاه..
يفطر، وينظر حوله، لا أحد يقول له “صحة فطورك”..
الذين يفطرون في بيوت غير بيوتهم، مثله، وإن كانوا كثيرين، لكنهم وحيدون أيضا، ليس لكلمة “صحة فطورك” في نفوسهم معنى زمان، أشياء كثيرة شوهتها.. الخوف الكامن في فوهات الدبابات والبنادق التي لا يُعرف من أين تأتي ولا متى.. الغلاء وقلة الحيلة، والنقود التي تأتي وتذهب في حقائب السفر..
كل هذا لا يهمّ، يتمتم، ويمسح فمه بيديه، يحمد الله، ويقول لنفسه “صحة فطورك”، ينزل إلى الشارع، حيث الناس كل الناس، ما زالت تحب الحياة وليبيا، قد تتألم للفقد والموت والحرب كما لو أنها ترتجف أكتافها من برد خفيف..
لكنها تبقى تحلم وتتمنى، وتبتسم، وتسمع “الأمين قنيوة” و “الدوكالي” “ومحمد حسن” و “بوجلاوي”.. وتصلي “التراويح” وتقول “صحة فطورك”..