شنة بو عبدالجليل
من المشاهد الطريفة في بداية انتفاضة فبراير، مشهد تلفزيوني معبر عن قلق بشأن الأفق الوطني لثورة مازالت في منتصف الطريق، حينما كان المحيطون الإعلاميون يهيئون السيد، مصطفى عبدالجليل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي المؤقت، للإدلاء بحديث تلفزيوني، وبدأ البث المباشر والسيد الرئيس مازال لم يحسم خياره المتعلق بلون (الشنة) كعلامة لا تخفي القلق المتعلق وقتها بالوحدة الوطنية ، فكان يضع مرةً الشنة الحمراء ومرة الشنة السوداء، وكل مرة يسأل: (هذي خير؟) .
في تلك الفترة كانت تدور الأحاديث في وسائل ووسائط الإعلام عن حوارات خفية، تجري على مستويات دولية، لتقسيم ليبيا كحل وسطي، ورغم الحراك الذي بدأ في بعض مدن الغرب الليبي إلا أن الظاهر بالنسبة للمتتبعين الدوليين أن انتفاضة فبراير مَعنيٌّ بها الشرق الليبي أكثر من غربه الذي مازال ـ في تلك الفترة ـ معظم مدنه وقبائله موالية للنظام القديم، بينما التفاوض يجري بين بعض أعيان المدن المنتفضة وبين أشخاص من النظام السابق، وكانت أخبار تجهيز مدينة مصراتة لما يسمى جمعة الندم تتواتر إلينا في بنغازي مثيرةً المزيد من القلق، حيث شكلت مصراتة عقبة مهمة آنذاك أمام فرص التقسيم التي عبرت عنها رسالة من القذافي إلى أحد أعضاء الكونجرس الجمهوريين تقترح حلاً يتعلق بالتقسيم وفق حدود الكيلو متر 40 ، إضافة إلى تأخر الحسم في طرابلس ، بل وخروج مظاهرة كبرى، أطلق عليها مليونية، مؤيدة للقذافي في وسط مدينة طرابلس. ورغم أنه لا يوجد أي تأكيد على ما سمي جمعة الندم في مصراتة ، إلا أن الخبر، سواء أكان إشاعة أو له جزء من الحقيقة، شكل قلقا كبيرا في بنغازي آنذاك، باعتبار نصف ثورة يعني الانتحار . بعد نهاية النظام وسقوط طرابلس في يد الثوار بدعم من سلاح الجو الناتو، وردت معلومات على أن (البراني اشكال) أحد قيادات القذافي قام بخرق الهدنة، التي كان يتم بموجبها التفاوض، كما ترك، أثناء انسحابه، بعض الأسلحة الثقيلة والمتوسطة للثوار من أجل إجهاض المفاوضات بشأن تراجع مصراتة، وهذا ما أدلى به البراني نفسه في أكثر من حوار، وهو الشخصية التي لعبت دورا مهما في نجاة طرابلس من حرب شوارع حين أمر أفراد كتيبته المختصة بحماية طرابلس بإلقاء أسلحتهم والعودة إلى عشائرهم بمجرد اقتراب مقاتلي المجلس الانتقالي من طرابلس، منتهزا فرصته السانحة لتصفية حسابه القديم مع القذافي الذي قتل أخيه ونكل بعائلته في الثمانينيات.
رغم توحيد أقاليم ليبيا منذ التعديلات الدستورية عام 1963 التي ألغت نظام الولايات، ورغم أربعة عقود من الضخ الوحدوي، ليس على مستوى ليبيا فقط ولكن على مستوى الوطن العربي، إلا أن واقع (غرب ليبي وشرق ليبي) ظل قائما، جغرافياً ونفسياً واقتصادياً، إن لم نقل اجتماعيا وسياسيا، ويعزز هذه الواقع هواجس مختلفة تتعلق بالتهميش والإهمال، أو مركزية طرابلس وسرت كعواصم تتبادل الأدوار، أو تركز مناطق النفوذ والفرض المتاحة في الغرب الليبي، ويحيل البعض خروج مدن الشرق من امساعد إلى إجدابيا من تحت سيطرة النظام في 4 أيام فقط إلى هذا التفاوت حتى في مقدار تعزيز النظام لتواجده الأمني في المنطقتين، وما أكد هذا التفاوت أيضا أنه حينما صدر قرار مجلس الأمن بشأن الحظر الجوي على ليبيا استلزم تنفيذ القرار ضرب البنى التحتية للدفاعات الجوية الليبية، واتضح حينها أن الغطاء الجوي على ليبيا كان مقتصرا على مناطق الغرب والمنطقة الوسطى والجنوب الغربي، وهي الجغرافيا التي كان تتحرك فيها مواكب القذافي باستمرار.
ودرءاً لهذه المشاعر الكامنة كانت الهتافات في بنغازي تحاول إجهاض محاولات اللعب عليها بالمطالبة بليلة حاسمة في طرابلس وبكونها العاصمة الأبدية. بعد سقوط النظام تحركت الهواجس من جديد، بداية بالدعوات الملحة لمحاربة المركزية التي سرعان ما تمخض عنها تنظيم فيدرالي صغير كان يرأسه أقدم سجين سياسي في ليبيا، والذي بدأ بعشرات مستهجَنين في الشرق، ثم أصبح بعشرات الآلاف بعد إدارة المؤتمر الوطني لشؤون البلاد بأسوأ طريقة ممكنة زادت الاحتقان ومشاعر التهميش لدى سكان شرق ليبيا، الذين يرددون لازمتهم التاريخية بكون برقة دائما هي من يدفع الثمن وطرابلس تجني الثمار. ورغم نصائح أحد زوار ليبيا (ماكين) المتاجرين بأزمتها آنذاك بالحفاظ على بنغازي عاصمة على الأقل في الفترة الانتقالية، إلا أن الفيض العاطفي نقل بنية الثورة التحتية وكل ملحقاتها من بنغازي إلى طرابلس فجأة، لتصبح بنغازي مرتعا للجماعات المسلحة وللاغتيالات في غياب اهتمام السلطات الجديدة في طرابلس والتي كان مفتيها يبارك أعمال العنف في بنغازي ، كما كانت كتل البرلمان من الأخوان والجماعة المقاتلة المدعومة من تركيا وقطر تدعم هذه المجموعات وكأن بنغازي تعاقب مرة أخرى على كون هذه الشرارة انبثقت منها. كل هذه الأخطاء المقصودة وغير المقصودة عملت على تكريس الأقاليم الليبية كواقع جغرافي وأمني، والأخطر من ذلك كواقع نفسي.
ذلك الواقع الذي كان يقلق المسؤولين عن هندام ممثل المرحلة الليبية الانتقالية حين كان يخاير بين أن يظهر بشنة حمراء أو شنة سوداء،، تحاشيا للفكرة المروَّجة بكون المجلس الانتقالي يمثل شرق ليبيا فقط.
هذا الواقع لا يعرض ليبيا لمخاوف العودة إلى نظام الولايات فقط، التي لن تقتصر الآن على 3 ولايات فحسب، بل يعرضها لخطر التقسيم إلى دويلات متعددة، خصوصا وأن التقسيم يتماشى مع مزاج القوى الإقليمية الذي أشار له مبعوث ساركوزي إبان الحراك، برنارد هنري ليفي ،في كتابه (يوميات كاتب في الربيع الليبي) حيث يشير إلى حديثه مع المبعوث الأميركي إلى انتفاضة ليبيا الذي أخبره في جلسة في فندق تيبيستي بضروة العمل على إرساء نظام الولايات ذات الحكم الذاتي في ليبيا، وحين علق ليفي على كلامه بكون شركاتهم النفطية هي التي وحدت ليبيا عام 1963 ، رد المبعوث الأميركي: الظروف الآن تغيرت تماما.
ولا أحد يتكهن بمصالح هذه الدول في إعادة ليبيا لنظام الولايات الذي يشكل مقدمة للتقسيم، لكن الجهود على أشدها مخدومين بحقيقة عدم وجود جيش موحد قادر على حماية الوحدة الوطنية، وبانقلاب ميليشيات مصراتة على المسار الديمقراطي الليبي كخيار وحيد للحفاظ على وحدة ليبيا، وشنها حروبا في الغرب والجنوب ووسط البلاد، بل ويعتبر تسليم ميليشيات فجر ليبيا لمنطقة سرت، العازلة بين الشرق والغرب، لتنظيم داعش خطوة خطيرة نحو تقليل الخيارات البديلة للتقسيم .