شعراء ألهمتهم المدينة
سالم العوكلي
ذات يوم اشتعلتُ
جاء البحر يتعثر في حواصل الطيور للإطفاء
جاء الشارع مثقلاً بشغب الأطفال .. بِلْغوِ الباعة
لكن أصابعك المزدحمة بالحناء والمطر لم تأتِ
عصرتُ شهوتي
النار تلهث
ووجهك كافٍ لتحلية قهوة العالم .
الشاعر: علي صدقي عبد القادر
عاش لأكثر من ثمانين عاماً لكنه لم يسأم تكاليف الحياة ، بل كان منشدها االكبير لآخر قطرة حبر مس بها البياض ، وخلال هذه الفترة الطويلة لم يُنظِّر للشعر، لكنه ترك نظرية كاملة للحياة، كما ترك وصفته الشعرية التي تختزل هذا التوجه الحالم في فكرة التشبث بالهامش الجميل وبكل رونق مهمل، مع إيمان رواقي بالموت كوهم لا يطول إلا من يغرق في التفكير فيه ، الشاعر علي صدقي عبد القادر، كان يؤثث كل هذا التوق بمفردات المدينة كحاضنة أبدية لفكرة الخلود .. كان السكّر ملاذه من المرارة ، والتفاح تعويذته ضد تلوث الروح ، والأنثى دفاعه عن الحياة، وحضن أمه منفاه الاختياري ، وكانت تفاصيل طرابلس إجابته عن الموت وأيقونة الخلود المعلقة في معظم قصائده . ومنذ قصائده العمودية الأولى بالإمكان تلمس نزوع الحداثة لديه، عبر الهمس والمجازات الجامحة، والخيال الطلق واللغة الأنثوية المتشربة بها قصيدته ، والأهم من ذلك ولعه بالحياة المدنية وسط احتفال صاخب بالبداوة ، فهو شاعر احتمى بمدينة طرابلس القديمة من غبار الصحراء، ولم يركب موجة التغني بها ، ولم تدخل كمفردة في شعره لأن ما يصدح في ذاكرته السمعية نغم المالوف ومعزوفة الطْرق المنغم على النحاس الذي شكل إيقاع وبحور قصائده الأولى إلى أن استكانت إلى نثر ناعم كالحناء، ولم يكن علي صدقي طالعاً من فراغ ولا وحده في هذا الشغف بالمدينة، وهو القارئ المحب لشعراء مثل رفيق المهدوي وإبراهيم الأسطى عمر، وإن كانت ضغوط الاجتماعي ونبرة السياسة لديهما عالية، فإن خطابهما الشعري كان تبشيرياً بقيم المدينة، وفي الوقت نفسه انتقادياً لحد السخرية أحياناً ، وفي الأحوال جميعها يمكن اعتبارهم “شعراءً مستقبليين” بالنسبة للتجربة الشعرية الليبية على الأقل، وتلك الهبة جعلت من بعض خصائصهم الخروج عن الغنائية التي وسمت الشعر الشعبي قبلهم ومعظم الشعر الليبي بكل أشكاله بعدهم، وتمثل هذا الحس المديني في التأسيس لخطاب سياسي وطني جاء غالباً على حساب الطراوة الشعرية كما عند المهدوي والأسطى عمر، أو عبر القاموس المستعمل وتأنيث اللغة والاستغراق في الحياة اليومية كما عند علي صدقي عبدالقادر، وهو الملمح الذي سنجده جليا عند الشاعر علي الرقيعي أحد رواد القصيدة الحديثة في ليبيا التي يتضافر فيها الشكل والمضمون من أجل تفجير الكثير من الإشراقات الجمالية الحديثة المستجيبة لحركة المدينة وثرائها المعرفي والجمالي، وفيما بعد عند الشاعر محمد الفقيه صالح الذي لاحق هذه التجربة بهمسه المتوتر، ومشهديته المدنية، واستبطانه لقيمها وطبيعة علاقاتها بحس اللغة الأنثوية المنساب في أكثر قصائده عناداً. لقد كابدت هذه الجمالية المفارقة الكثير من المتاعب وسط التغني الصاخب بالصحراء والبداوة كقيم أزلية، لكن ما يجعل همسها أكثر جلاءً هي كونها فكرة للحياة والرفاه، التي هي فكرة المستقبل، والتي هي أيضاُ فكرة وهم عظيم كان وراء قيام جل الحضارات، ووراء الملاحم الشعرية الكبرى ، وهم الخلود، وهم القدرة على مقارعة الموت.