(شط الحرية.. متعة الإبداع الدارج)
يبدو واضحاً أن العمل الكوميدي البسيط (شط الحرية) استطاع أن يخلق من الاعتياد والتداول اليومي منطقة خصبة للتأويل.. وبغض النظر عن المستوى الفني لهذا العمل، إلا أنه يُمثّل الجدية في الطرح والتناول لكافة الموضوعات، مبتعداً بذلك عن الركام البائس لبقية المُهرجين الكالحين وأعمالهم السمجة، التي استخفت بالذائقة الشفافة للناس.
بالطبع هذا لا ينفي عن العمل بعض الملاحظات المهمة، وهنا أتذكر نقاشاً مباشراً، يضع الأشياء كلها على طاولة واحدة.. كان النقاش يدور بجدية أقرب للتعصب من طرف أحد المنتقدين، حول (شط الحرية)، ومقارنته ببعض الأعمال الأخرى التي تُعرض على الفضائيات الليبية. وسأحاول هنا أن أُقدّم إضاءات بسيطة وسريعة حول هذا النقاش، وبلغة يفهمها الجميع، بعيداً عن النقد الفني الذي له خصوصية لا أملك أبجديتها، رغم أن الانطباع في أحيان كثيرة يكون أكثر ملامسة للعمل الفني، لحساسيته العفوية.
أولاً/ لاحظت أن العمل أقرب إلى التعاضد العائلي منه إلى احترافية نخبة جمعها عمل فني معتاد، وهذا يبدو واضحاً في الاجتهاد الشخصي لبعض الممثلين، ومحاولتهم تقديم أنفسهم بشيء من النجومية، بعد أن سطعت أسماؤهم في نسخ العمل السابقة.
ثانياً/ ركّز العمل على لهجة برقة في عمقها الدلالي، ومدى سطوة الكلمة التعبيرية على (المخيال) الذي أنتجها، حيث من الصعوبة بمكان أن يتفاعل أهل الغرب وأهل فزان مع (هتاريش) بوسالمين، كما يتفاعل معها أهل برقة، ومن على تخومهم القريبة في خليج سرت مثلاً.. وهذا شيء طبيعي، فمخيال مجموعة ما لا يتشابه مع مخيال مجموعة أخرى، بل يتشبث كل مخيال بما لديه من صور.. وفي الغالب يحدث هذا من منطلق تمايزي، أو يأتي كنوع من التمسك (الهوياتي).. لكن الطبيعة (التجاورية /التحاورية) لدى الليبيين تخلق مقاربة تتسق في بنية الذوق العام.
ثالثاً/ من الواضح أن العمل هو عبارة عن امتداد للأعمال الفكاهية الموسمية التي تقدّم في شهر رمضان، والتي دأب أصحابها على تبني المشاهد القصيرة المكثفة المختومة كوميدياً، في محاكاة مجترة، تتحكم فيها ظروف البلاد والمستجدات والمتغيرات على الأوجه كلها. مما يجعلها تتجلى في بعض الأحيان من خلال ذكاء بعض الفنانين الممزوج بموهبتهم الفطرية، صالح الأبيض، حاتم الكور مثالاً.. قبل أن يسقط الثاني في قاع السماجة في عمله الأخير.
رابعاً/ يبقى نجاح أي عمل متوقفاً على مدى استجابة الجمهور له وتفاعله معه بشكل واسع، ومن خلال هذا المعيار فإن عمل شط الحرية أكد على نجاحه الباهر، رغم كل الملاحظات النقدية حوله، والتي يتركز أغلبها في (نقد البساطة)، وهذا أمر متوقع لكل عمل فني، فأغلب الأعمال الفنية مهما بلغت شهرتها فإنها تتعرض لبعض النقد أحياناً، وهذا لا يؤثر في حضور العمل وازدحام المعجبين به.. في المقابل فإن شط الحرية اعتمد على التلقائية الفنية دون تعقيد، ولأسباب أخرى تقف الإمكانيات المادية والجوانب التقنية التحضيرية في مقدمتها.
خامساً/ أعتقد أن من أهم أسباب نجاح (شط الحرية) يقف وراءه الحماس الفردي للوصول إلى ملامسة الواقع السلبي للحياة اليومية بكل أبعادها السياسية والاجتماعية، ليس لمعالجته، بل لتقديمه من زاوية حساسة جداً، وهي زاوية الكوميديا التي تجد طريقها إلى الذوق المتعدد لجميع الأطياف الليبية بسلاسة ويُسر ودون تكلف.
سادساً/ هناك نقطة مهمة جداً تتلخص في غياب (الخطاب النقدي الموازي)، وهذا لا يخفى على أهل الفن أنفسهم، إذ لم يكن هناك نقد بالمعنى الدقيق، يقتفي أثر الأعمال الفنية في العموم، وذلك راجع للظروف (السياسثقافية) التي سادت البلاد سابقاً وانتهجت التعسف في جميع المجالات، مما جعل مجال العمل الفني يفقد حماس أهله للتفوق والمنافسة، واقتصارهم على الارتزاق، ولو جاء على حساب تلبية الرؤية الأحادية للمنظومة الحاكمة التي ترى في إبداعات الفن والثقافة مجرد ترف لا مبرر له.