“شرع الله يا شيخ”
فرج عبدالسلام
من منا لا يزال يذكر تلك العبارة الشهيرة بأسى شديد، حين اعتبرها من يُسمّون بـ “الثوار” غصبا عن كل الليبيين، شرطا أساسا للانضواء تحت لواء الدولة الوليدة، التي طال انتظار بزوغ فجرها، فأعلنها ذلك السيّدُ آنذاك بحسن نيّة بيّنٍ، كتبريرٍ لما أدلى به من في خطاب التحرير من وعودٍ غرائبية، استهجنها الليبيون وجُلِد بسببها كثيرا، وصرّح بعدها أكثر من مرة بأنه غُرّر به. يعتقدُ كثيرون، وأنا أوّلهُم، أنّ ذلك التوجّه الديني المتطرف الدخيل على غالبية الليبيين، وتلك الدعوةُ التي فرضتها جماعاتٌ متشددة ومؤدلجة على الشعب الليبي “الكافر” كانت سببا رئيسا لما حدث من تداعيات مقيتة وسفك دماء، وعدم خروج ليبيا من نفقها المظلم حتى الآن.
كما تُخبرنا حولياتُ الثورة الليبية أنّ أولئك الذين ادّعوا الحديث باسم السماء، لم يكونوا صادقين في وعودهم فتمسّكوا بأديولوجياتهم، وانقسموا كعادتهم شيعا وأحزابا، فاحتفظوا بسلاحهم، واستمرؤوا بريق السلطة وما جلبته من منافع مادية ومعنوية، فكان ما كان من تلك القصة الحزينة التي يبدو أن نهاياتها لا تبشّر بخير حتى الآن.
ومثلما حدث للمسيحية في القرن الثاني الميلادي، حين صارت إدارة الدين والعلاقة بالسماء تخضع للرهبان والقساوسة بسلطتهم الدينية المطلقة، حدث الأمر نفسه للإسلام مع بدايات القرن الثاني الهجري، حيث رأينا وقائع مؤكدة حول تطويع الدين وفق احتياجات جماعات دينية معينة، أو لمصلحة سلطة سياسية ودينية، فأفقدت هذه المؤثرات هيبة النص المقدس الذي تعرض للتبديل والتغيير والتحريف وأنتج شرائع وفرقاً دينية، كل فرقة تلعن أختها وتكفرها أحيانا، وكل ذلك تحت شعار “شرع الله”.
إذا ما سلّمنا بحقيقة ملموسة نكاد نراها رؤيا العين، مفادها أن الدينَ من أكثر القضايا أهمية وقدسية، فحضور المقدس في الأنفس والمجتمعات سيبقى ما بقي الإنسان، لأن هذا التوق الروحي جزء من فطرته، وقابع في زاوية ما من الوجدان الجمعي، وما لم تهذّبه الأخلاق والرقي الإنساني الذي يرى في ممارسة التدين أمرا بالغ الخصوصية بين الفرد وبين السماء، ستبرزُ إذا ما سنحت الفرصة، ما فيه من جوانب بشعة خفية، تؤدي إلى الحروب والانقسامات. إذاً فالمسألة تتعقدُ كثيرا عندما يتداخل الدين مع التديّن، ويتماهى المتحدثون باسمه مع “المقدس” فتختلط الأدوار، وبالأخص عندما يترسخ في عقيدة هؤلاء أنهم ممثلون للذات الإلهية، والمنتدبون منها لتطبيق شرائع السماء على بقية الناس بشكل تعسفي ينفي عن تلك الشرائع الفكرة الجوهرية التي تدعو إليها من وئام ومحبة بين بني البشر.
بالقياس نفسه فإن إصرار تلك الفئة القليلة من واضعي مسوّدة الدستور، على إقحام الليبيين في دوامة صراع الدين والدنيا، بوضع تلك المادة الملغومة التي تنص على أن الشريعة هي المصدر الأساس للتشريع والقوانين، بل وتحصين تلك المادة، سيُدخل الليبيين في متاهة يصعب الخروج منها لعقود طويلة، ولا أحسب إلاّ أن واضعي تلك المسوّدة لم يستفيدوا من المخلفات المدمرة لتلك الصيحة المشؤومة “شرع الله يا شيخ”.
لقد رأى الجميع أن هذه الإشكالية أفسدت كلاًّ من المجتمع والدين وأشعلت الحروب والثورات في الماضي، وتتضح بشكل أكثر الآن في زمننا الراهن في كثيرٍ من المِلل والأحزاب الإسلاموية المختلفة التي ينطبق عليها النصّ القرآني: ((كل حزبٍ بما لديهم فرحون)) تصل إلى حد إقصاء الآخر وحرمانه من الوجود، ونحن هنا نذكّر المتشددين الإسلامويين بحال أبناء عمومتهم اليهود وتطويعهم للدين وفق احتياجات المجتمع اليهودي العنصري، وما يدّعون من خصوصية، فأصدروا أخيرا قانون الدولة اليهودية، لا يعترفون فيه بأي دينٍ ولا حتى بشرٍ سواهم. ويستمر هذا التفاعل بين الدين ومن يتحدثون باسمه، وتزداد دوائر القضية اتساعا كلما هيمنوا على بسطاء الناس وجهلائهم، وفي الغالب يجدون في السلطات السياسية حليفا لهم في إطار عملية تبادل المنافع، كما نراه جليا الآن في بلادنا، حيث تسيطر الجماعات الإسلاموية العنفية على كل شيء وتنخرط في قتال المناوئين لها، فتحدث كل البشاعات تحت شعار “الله وكْبر” في قتال الخصوم من بني الوطن، الذين في الغالب يرفعون الشعار نفسه، ويطلقون من جانبهم صيحة “الله وكْبر” بكل سخفٍ وعبثية وهم يرمون أسلحتهم عشوائيا فتفني البشر وتدمّر الحجر… ورأى الليبيون كيف تحوّل هذا من نداء تلقائي يجسّد الإيمان بالذات الإلهية، إلى هتاف ممجوج عند الناس يصحبه القتل والدمار عند من رفعوا مقولة “شرع الله” وبالتالي ألا يتعيّن علينا التدبّر والتمحيص في هذه المتاهة، ومحاولة الخروج منها بسلام وبأقل الخسائر.
وحول تداخل الدين والدنيا وكيف يُشعل نيران الحروب حتى بين بني الوطن الواحد، سأختمُ بفتوى السعودي محمد بن هادي المدخلي حول الأوضاع في طرابلس عندما ردّ على سؤال حول موقف أهل السنة من الاشتباكات في المدينة. وجاء في جواب الشيخ الهمام: “إن القوة المهاجمة هم خوارج ويجب الوقوف ضدهم… وأكّد بقوله: طوبى لمن قتلهم أو قتلوه”.