شرعية المائتي تابوت مازالت تحكم
سالم العوكلي
في صدد كتابتي وجدالي حول الأزمة الليبية سبق أن ذكرت أن من يرى الشجرة لا يرى الغابة، مشيرا إلى التشويش على الصورة العامة للأزمة الليبية بالحديث عن التفاصيل، وربما أضيف شيئا يوضح هذه الرؤية يتعلق بمبدأ عالم الفيزياء بور الذي انزاح من ملاحقة الجزيئات الدقيقة وعزلها عن سياقها المادي إلى النظر إلى الصورة العامة للمادة كاملة ومدى تأثيرها في سلوك هذه الجزيئات. وككثير من المبادئ الفيزيائية التي انتقلت إلى مجال الفكر والعلوم الإنسانية، استُخِدم هذا المبدأ من قِبل مراسل لحرب الخليج الثانية التي أسقطت النظام الصَّدّامي في العراق مستخدما ما سماه (مبدأ بور) في توضيح الصورة، ومفاد تجلي هذا المبدأ الفيزيائي في الحقل الإعلامي أن أخبار التفاصيل الصغيرة التي كانت تصل عن هذه الحرب مثل تدمير دبابتين أمريكتين، أو أسر بضعة الجنود الأمريكان، أو صد هجوم في مكان ما، كانت توحي بخسارة الولايات المتحدة للحرب، أو صعوبتها على الأقل وامتدادها لأجل طويل. لكن من يرى الصورة العامة لما يحدث على الأرض (الغابة) يدرك أن بغداد ستسقط في خلال ساعات، وهذا ما حدث في النهاية، وترجع الصدمة الكبيرة التي تعرض لها الملاحظون المتعاطفون مع العراق كدولة عربية تتعرض لاعتداء إمبريالي، ترجع هذه الصدمة لكون هذا الملاحظ كان يتابع التفاصيل الجزئية التي أعطته وهما بأن الحرب محسومة لصالح الطرف الذي يناصره. هذا مثال يتعلق بما سبق أن تطرقت له بخصوص التعليقات والردود التي تصلني عن تفاصيل مزعجة خلال حديثي عن المشهد العام وطبيعته وعن مآلاته المحتملة.
المشكلة التي نعاني منها الآن هو الاستقطاب الحاد الذي يؤدي إلى صراع ثنائي يترتب عنه منهج مثنوي صارم في قراءة كل شيء، فبمجرد أن تنتقد طرفا فأنت تلقائيا مناصرا للطرف الآخر، وكأن لا خيار ثالث ولا تدرجات للون بين هذين النقيضين، والمنهج المثنوي يزداد رداءة حين تتحول هذه الثنائية إلى ثنائية جهوية.
حين كانت الحرب تدور في مدن الشرق الليبي بين العسكريين الذين انتظموا في كتلة للدفاع عن أنفسهم، ثم الدفاع عن محيطهم ،وبين الجماعات الخارجة عن القانون التي شكلت نفسها بنفسها، وحددت أمراءها دون أي مرجعية قانونية أو تراتبية ، كنت في تلك الفترة أتوجه بنقدي لبعض المجموعات المتحالفة (الخارجة عن القانون) وكنت أتهم مباشرة بانحيازي للطرف الآخر، وكانت مواقع الطرف الآخر (الذي أنا ضده مبدئيا كطرف يستخدم الدين في مشروعه السياسي للوصول إلى السلطة) كان ينزع هذه الانتقادات من سياقها وينشرها جيشه الإلكتروني كرأي في الطرف الآخر كتبه شخص من الشرق. وحين انتقلت الحرب إلى مدن الغرب الليبي كنت أتوجه بنقدي للجماعات المسلحة التي تعمل خارج القانون ولمنطلقاتها التي هي في الأساس ضد فكرة الدولة، ومن جديد حسبت على الطرف الآخر وعلى جهة محددة، والبعض اتهمني بمناصرة مبدأ الحرب رغم أن ذلك لم يرد أبدا في سطر من مئات المقالات التي كتبتها، والبعض لم ينتبه إلى أن ليبيا فيها حرب إلا بعدما اقتربت من بيته، رغم أني لسنوات عدة كتبت في قريتي وأنا مهدد بالقتل مرارا والرصاص مازالت ثقوبه في بيتي، وكأن تلك الحرب بالنسبة للبعض البعيد عنها داخل الوطن كانت تجري في الصومال أو الكونغو.
كان انحيازي المبدئي لأي جسم أراه خطوة حتى وإن كانت عرجاء في طريق تأسيس الدولة، وكان انحيازي لكل ما يعتبر امتدادا للخيار السياسي الذي اختاره الليبيون بعد سقوط النظام، ومهما كان هذا المسار متعثرا ومليئا بالأخطاء كنت أدافع عنه ، ضاربا مَثَلي: إن التقدم البطيء إلى الهدف والغاية على طريق ترابي مليء بالحفر أفضل من السير بسرعة فوق أوتوستراد يفضي إلى الهاوية أو عكس الغاية. وكانت الهاوية بالنسبة لي هي أن يتحكم ما يسمى الإسلام السياسي في الدولة ومستقبلها السياسي، وان تتحول ليبيا إلى دولة تبدو فيها مظاهر الدولة المدنية التي تتحكم فيها الميليشيات لكنها كما في ديمقراطية لبنان أو العراق التي تبدو أجسامها الديمقراطية مجرد لعبة تتلاعب بها الميليشيات، وبرامجها السياسية لخدمة هذه الميليشيات القادمة من خارج القانون والدستور والفارضة نفسها بالسلاح وبالمؤسسات السيادية التي تحت سيطرتها، وبوهم أنها توفر أمن ومصالح فئة من الناس.
ولأن المسار السياسي في ليبيا كان يمثله الإعلان الدستوري الذي توافقت عليه سلطات منتخبة، وبغض النظر عن عيوب واختلالات هذا الإعلان فإنه يشكل خطوة نحو الغاية (الغاية من إسقاط نظام لم يؤمن يوما بالدستور واستمد لعقود شرعيته من الثورة نفسها كما تفعل الآن الميليشيات التي في ذروة حماسها الثوري تعتبر كل من يعارض جرائمها محسوبا على الثورة المضادة أو على ما يسمونهم الأزلام) ، وكل ما ترتب عن هذا الإعلان اعتبره خطوة على الطريق.
لكن ما حدث ونتيجة ما تعرض له هذا المسار من عراقيل تمثلت في مقاطعة مجلس النواب من بعض النواب المحمولين على أيديولوجيا الإسلام السياسي، ثم الطعن قانونيا في دستورية هذا المجلس، ومن ثم إعلان حرب فجر ليبيا، كانت كلها خطوات تسعى لنقل الصراع حول الاختلافات أو الخلافات من جدال تحت قبة البرلمان كما يحدث في الدول الديمقراطية إلى حروب في الجبهات والمحاور وانقسامات حادة في الأجسام السيادية كما حدث ويحدث حتى الآن. ولو أن النواب الذين انتخبهم الليبيون تحملوا مسؤولياتهم النيابية الممثلة لدوائرهم، وبقوا جميعا تحت القبة يتناقشون ويعتصمون، وحتى يتشاجرون، ويعبرون عن كل احتجاجاتهم بشكل سلمي لكان المشهد الآن مختلفا، خصوصا أن مقر البرلمان في طبرق لم تكن تحاصره الميليشيات أو تُوضع أمامه التوابيت بعدد أعضائه كما حصل في المؤتمر الوطني السابق له.
بهذا المعنى وبهذه الثوابت التي كتبت وفقها، كنت أرى أن كل الأجسام التي تشكلت فيما بعد انقلابا على المسار الذي اختاره الليبيون وخرقا للإعلان الدستوري، والطريف أن يصبح الاتفاق السياسي الذي وُقِّع في الصخيرات بديلا كاملا للإعلان الدستوري الذي اختاره الليبيون وانتخبوا ممثليهم وشكلوا أجسامهم السيادية واعتمدوا ميزانياتهم بناء عليه. وهو لا يحمل أي قيمة دستورية إلا إذا ضُمّن في الإعلان الدستوري، واعتُمِد من مجلس النواب، كما ورد في إحدى مواده، وهو يشبه الرسالة الإدارية التي لن تكون لها قيمة إلا حين يوقع عليها وتختم من الجهة المخولة، وغير ذلك فهي مجرد حبر على ورق، ورغم عدم تضمين الاتفاق السياسي في الإعلان الدستوري، إلا أن أجساما تشكلت عبره بما فيها منصب (رئيس الدولة) والقائد الأعلى للجيش، وتشكل مجلس دولة أعلى هو مجرد إحياء لرميم عظام المؤتمر الوطني الذي وضع ليبيا للأسف على بوابة هذا الصراع، لكن بالنسبة لي كان دستوريا ومن اختيار الليبيين والديمقراطية تفرض على الناخبين خياراتهم ونتائج هذه الخيارات حتى في الدول الطاعنة في الديمقراطية. ولأنني عشت كما الليبيون عقودا تحت حُكمٍ نَهَبَ السلطة ولم يملك أي شرعية، كان هاجسي الأول هو الشرعية مهما كان ممثلوها دون طموحنا، لأنها خطوة على الطريق، وكنت وسأكون ضد كل الأجسام التي نهبت السلطة نهبا وشكلت نفسها بنفسها بعيدا عن صناديق الاقتراع وإرادة الليبيين، ولا يشكل الاعتراف الدولي أهمية بالنسبة لي إلا إذا كان تتويجا لإرادة وطنية لا يمكن معرفتها وتحققها إلا عبر صناديق الاقتراع أو عبر استفتاء شعبي.
لقد انطلقت شرعية كل الأجسام التي تسيطر على العاصمة من 200 تابوت وضعت أمام مبنى المؤتمر الوطني، ومن قِبَل الأعضاء الزومبي (الأحياء الأموات) تحت القبة سُنتْ القوانين واتُّخِذت القرارات التي أوصلت ليبيا لهذا المصير، والتي تسببت في كل التوابيت المنتشرة في كل أرجاء الوطن جراء الخطف والاغتيالات والحروب.