شراء الأصوات وشراء الصمت أيضا
سالم العوكلي
بمناسبة ما حدث من مزاد في فندق الفور سيزون بتونس حول مستقبل ليبيا، سأتطرق إلى شخصية عاشت وترعرعت على بعد عشرة ألاف ميل من هذه الأرض، لكنها أصبحت جزءا من تاريخنا، لعل ذكرها يُخجل من شاركوا في هذا المزاد القميئ على مستقبل ليبيا وأجيالها.
سان لو، أول مندوب لهايتي في الأمم المتحدة؛ الذي أقنعه الدكتور علي نور الدين العنيزي، عضو هيئة تحرير ليبيا، أن يُصوت ضد مشروع بيفن سفورزا الرامي إلى جعل مناطق ليبيا الثلاث: طرابلس، وبرقة، وفزان، تحت انتداب إيطاليا، والمملكة المتحدة، وفرنسا.، ولم يتم اعتماد مشروع الخطة بسبب صوت الضمير، صوت سان لو ضد المشروع.
كان ذلك الصوت علامة فارقة في تاريخ ليبيا، حيث تمّ إسقاط مشروع التقسيم بفارق صوت واحد، ومهد هذا الفارق الطريق أمام قرار إستقلال ليبيا الذي صدر ظهيرة 21 نوفمبر 1949 تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة القسم (أ) من القرار 289 (4) بموافقة 49 عضوا بدون أي اعتراض، مع امتناع 9 أعضاءعن التصويت.
فقد سان لو منصبه ووظيفته ثمنا لذلك الموقف، فما كان من الملك إدريس السنوسي الا أن أصدر مرسوما ملكياً يقضي بتعيين سان لو مستشارا للسفارة الليبية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن فصلته هايتي من منصبه، وبمنحه مرتبا طوال عمره تقديرا وامتنانا لموقفه، واطلق الليبيون اسم هايتي علي أحد شوارع مدينة طرابلس، وفي سنة 1957 زار السيد سان لو ليبيا واستُقبِل استقبالا حار في مدينة بنغازي وأطلق اسمه على أحد شوارعها. وكانت سلطة انقلاب 1969 قد ألغت أسماء هذه الشوارع.
هذا صوت ضمير إنساني اشتراه أو (أقنعه) صوت ضمير وطني لأولئك الرجال الذين كافحوا في أشد الظروف التي مرت بها بلادنا قسوة من أجل إبعاد شبح التقسيم، ومن أجل أن تنال ليبيا استقلالها المعجز من بين أنياب القوى المتوحشة التي كانت عيونها مسلطة على تقاسم ميراث الدول المهزومة.
حين أعلن عن عقد جلسة لملتقي الحوار الوطني في تونس للبث في مستقبل ليبيا، توجه مجموعة من الكتاب والمثقفين والفنانين والناشطين ببيان طلبوا أو (رجوا) فيه من المشاركين الاقتداء بأبائهم وأجدادهم؛ مؤسسي الدولة الليبية الأولى، والحديث عن شراء أو إقناع صوت ممثل لدولة تبعد آلاف الأميال عن دولة في مخاضها مرده ما رُوِّج من شبهات شراء أصوات في بازار فندق الفصول الأربعة، وهو حدث تجاهله الداخل والخارج ولم تكلف حتى لجنة تحقيق للتبين، خصوصا وأن التقرير على هذه الشبهات قدمه خبراء من الأمم المتحدة المنوط بهم فحص انتهاكات حظر الأسلحة الدولي على ليبيا وفي فقرة من تقريرهم، أفاد الخبراء بأن أحد المندوبين “انفجر غضبا في بهو فندق فور سيزنز في تونس العاصمة عند سماعه أن بعض المشاركين ربما حصلوا على ما يصل إلى 500 ألف دولار مقابل منح أصواتهم إلى دبيبة، بينما حصل هو فقط على 200 ألف دولار”.
وأكد أحد المشاركين في المحادثات، طلب عدم الكشف عن هويته، لـ”فرانس برس” أنه كان شاهدا على ما حصل، معربا عن غضبه من “الفساد غير المقبول في وقت تمر ليبيا بأزمة كبيرة”.
في مقالة سابقة بعنوان “ليبيا مصنع كبير للبلاستيك القابل وغير القابل للتدوير” وبموقع 218 بتاريخ 9 فبراير 2021 ، كتبتُ ما يلي ” قبل خروج نتائج التصويت المفاجئة في جنيف راسلني صديق بأن القائمة المرشحة حسب ما تسرب هي قائمة عقيلة وباشاغا مرفقة بملاحظة (أفضل من قائمة أدبيبة الخطيرة). فالقائمة الفائزة كان اسمها قائمة علي أدبيبة، مقاول الجماهيرية على المفتاح الذي كان ضمن لجنة الخمسة وسبعين. فهل كان للمال السياسي دور في هذه النتيجة المفاجئة التي لم يتوقعها أحد. لا أتمنى ذلك.”. وكنت وقتها حذرا لأن ما راودني شكوك سربها لي أحد الأصدقاء المشاركين في الملتقى، غير أنه بعد خروج تقرير الأمم المتحدة للضوء ذهبت الشبهات إلى خانة التهم، وهو أمر لابد أن نتوقف عنده، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، والبراء والإدانة لا يمكن أن تتحقق إلا بتحقيق شفاف ومهني. غير أن هذه التهم الخطيرة طويت في أرشيف المنظمة وفي مكتم غيظ الليبيين، وكأن الجميع متحمس للملمة هذه البلد بأي طريقة، أو كأن الفساد أصبح تحصيل حاصل، ويبدو أنه مثلما شُريت الأصوات شُري الصمت حيال هذه الصفقة.
إذا أُثبِتت هذه التهم، فما بني على باطل هو باطل. وحين تأتي حكومة عن طريق الفساد كيف لها أن تكافح الفساد، أو كيف لها أن لا تنخرط في الفساد.
بالطبع ليس كل المشاركين فاسدين لكن صمتهم عما حدث مشاركة غير مباشرة في هذا الفساد، خصوصا وأن البعض اكتفى بالتلميح أو عبر إخبار أصدقائه الذين يثق فيهم على الخاص، طالبا عدم ذكر اسمه إذا ما استُئذن في نشر التسريبات كما حصل معي. ومع أن الكثيرين لا يريدون تشويشا على هذه المخرجات ومغتبطون بالحكومة الجديدة، إلا أن صوت الضمير يجعلنا لا ننخرط في هذا الحماس الذي جربنا مثله كثيرا وخُذِلنا، لأننا لم ندقق فيها ولم نضغط على مخرجات حوارات سابقة وما ترتب عنها من سلطات معترف بها دوليا عبر كل أدوات الضغط السلمية.
الداخل معظمه لا يريد وضع العراقيل أو الشكوك في طريق هذه الحكومة لأنهم وصلوا إلى مرحلة اليأس القاتل من الأوضاع، والأمم المتحدة التي أصدرت تقريرها تجاوزت أيضا هذه التهم التي أبلغتْ عنا تحت بند ليس بالإمكان أفضل مما كان، والضحية ستكون دائما زمن ضائع، ووطن مهدر، ومواطن مخذول كل مرة يلدغ من الجحر نفسه.
نعرف أن الفساد أصبح ظاهرة عالمية، لكن فساد عن فساد يختلف، وحين صرح المندوب السابق غسان سلامة بأن ما يحدث في ليبيا نهب وليس مجرد فساد كان يعني هذا الاختلاف. غير أن الفارق الجوهري في الفساد، أو النهب الليبي، كونه فسادا مسلحا ومحميا بميليشيات مسلحة، وحتى أصحاب الضمائر الحية في أجهزة الرقابة المختلفة حين كشفوا هذا الفساد هم من هُددوا أو سُجنوا بدل أن يحقق مع الفاسدين أو يسجنوا.
فلا أعرف ماذا ستفعل حكومة ولِدت من هذا المستنقع وستعمل فيه، لكن طالما الشارع والناس غائبين فلن يتوقف الفساد، وهذا ما يتطلب حشدا مدنيا سلميا يظهر كل جمعة في مدن ليبية كما يحدث في الجزائرالتي أصر شارعها اليقظ على مطالبه ومن ضمنها محاسبة الفاسدين حتى وضِع اللصوص الكبار خلف القضبان، أو كما حصل في السودان تحت الضغط الشعبي. لا حل سوى أن يكافح ضحايا الفساد أنفسهم من أغلبية صامتة هذا الفساد الذي تنتقل عدواه من سلطة إلى سلطة، ولا يتوقعوا الخير من حكومات تولد فيه ومن خلاله، لأنها سرعان ما ستنغمس فيه كما حدث مرارا طيلة هذه السنوات العجاف، وطيلة عقود تنمية الفساد السابقة لها.