شح المياه في ليبيا: أزمة مصادر أم سوء إدارة؟
سالم العوكلي
تعليقا على ما ورد من ملاحظات في حديث وزير الموارد المائية بحكومة الوحدة الوطنية، طارق عبدالسلام بوفليقة، المنشورة بموقع 218 ، عن وضع المياه الراهن في ليبيا والمستقبل المائي المنذر بشح المياه الصالحة للاستهلاك، رأيت أن أعلق على هذا الأمر الهام، باعتبار تخصصي كمهندس تربة ومياه يتماس مع هذا الشأن، وباعتبار مشاركتي ضمن فريق مشروع ليبيا 2025 ـ رؤية استشرافية، الذي كان مجال البيئة والمستقبل المائي أحد اهتماماته ما أتاح لي الإطلاع على بعض الدراسات المهمة عن الأوضاع البيئية والمائية في ليبيا ، حيث أشار الوزير “إلى أن ليبيا واحدةٌ من أفقر دول العالم في المياه، مشيرًا إلى أن توطين محطات التحلية في البلاد يحتاج إلى مبالغ مالية كبيرة جدًا.”.
فهل المشكلة أزمة مصادر مياه أم أزمة إدارة رشيدة لهذه المصادر؟ وقد يستغرب أي مطلع على هذه الملاحظات وجود عجز مائي في بلد لا توجد بها كثافة سكانية أو مشاريع زراعية استراتيجية أو نهضة صناعية، وتتمتع بساحل طويل على البحر المتوسط، وبها “نهر صناعي عظيم”، ونسبة مهمة من سقوط الأمطار سنويا على مناطق الساحل وخصوصا جبلاها الأخضر والغربي. ضمن مقترحات بوفليقة تجاه هذا العجز المائي يطالب “بتفعيل قانون الجباية لصالح النهر الصناعي؛ لأجل استكمال مراحله.” غير أن قانون الجباية هام مع كل المصادر لأنه الطريقة الناجعة لترشيد الاستهلاك. وبما أن الحديث عن النهر الصناعي كمصدر أصبح رئيسا للمياه العذبة، سأذهب إلى اقتباس مهم من كتاب (بين الإرادة والأمل: ذكريات وتجارب حياتي) الدكتور علي أحمد عتيقة، وزير التخطيط والتنمية إبان الحقبة المليكة،. يتعلق بحكاية النهر الصناعي القديمة، حيث يذكر تحت عنوان “آخر اجتماع لمجلس الوزراء “. صفحة 359:
“عقد آخر اجتماع في مدينة البيضاء يوم الأربعاء الموافق 27 أغسطس وعرضت فيه فكرة نقل مياه الشرب من آبار عميقة في الكفرة إلى مدينة بنغازي وأجدابيا وغيرهما من المدن والقرى التي كانت تعاني من عدم توفر المياه الصالحة للاستهلاك المنزلي والصناعي وغيره. استغربتُ كما استغرب وزير البلديات علي الميلودي كيف يطرح هذا المشروع بتلك العجلة لأنه كان، كما قيل لنا، بطلب من الملك. ومع أنني لم أعد المسؤول عن وزارة التخطيط والتنمية إلا أنني عبرت عن استغرابي من عرض هذا الموضوع من جديد بعد أن تقرر تأجيل سحب المياه الجوفية من أماكن تجمعها في الصحراء إلى أن تتم الاستفادة الكاملة من ثروة الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء التي يتم بواسطتها تحلية المياه المالحة كما هو حاصل على نطاق واسع في منطقة الخليج وفي غرب الولايات المتحدة. ورغم ذلك كانت أغلبية أعضاء المجلس تريد المضي في تنفيذ المشروع مع أنه لم يكن ضمن الخطة الخمسية الثانية التي اعتمدت حوالي 80 مليون دولار للمزيد من التحري عن المياه الجوفية القريبة من الساحل، وللبدء في عملية تحلية مياه البحر وغيرها من مكامن المياه ذات الملوحة العالية. أصرت الأغلبية على ضرورة تنفيذ رغبة الملك لأن الأمر يتعلق بتوفير المياه العذبة للناس. وأما مصدر التمويل فيمكن توفيره من زيادة سعر البترول المعلن.. علما بأن المبلغ المطلوب لن يزيد على مائتي مليون دولار أمريكي حسبما قدم لنا. انتهى النقاش في المجلس بتأليف لجنة خاصة من وزراء: الزراعة والتخطيط والبلديات والأشغال العامة على أن تجتمع اللجنة بعد أسبوع وتقدم تقريرها إلى مجلس الوزراء. كما تقرر أن يكون اجتماع المجلس القادم في طرابلس يوم الأربعاء الموافق 3 أيلول/ سبتمبر 1969. ولكن ذلك الأمر لم يتم بسبب ما استجد من أحداث وتغييرات يوم الفاتح من الشهر نفسه.
المهم في هذا الاقتباس الرأي الراجح بالبحث عن أولويات قبل الغوص في عمق الصحراء وجلب مخزونها من المياه الجوفية، وهو مشروع تطرق له الدكتور علي في أكثر من مكان مشيرا لاعتراض بعض الخبراء عليه ومنهم الدكتور نفسه، حيث فضلوا استغلال الغاز الطبيعي المستخرج مع النفط؛ والذي كان يحرق وقتها، في نقله عبر شبكة مواسير لتشغيل عدة محطات تحلية كبرى على الساحل الليبي، وتواصلوا مع الشركات النفطية لإنجاز هذا المشروع الذي اقترح أن يكون في الخطة الخمسية الثانية 1974 ـ 1979، لكنه توقف تماما بعد الانقلاب.
بحساب بسيط، نجد أن تكلفة مراحل النهر الصناعي كلها كافية لإقامة 20 محطة تحلية ضخمة على الساحل الليبي البالغ طوله 2000 كم تقريبا، بمعنى إنشاء محطة تحلية في كل 100 كم من هذا الساحل. والاستفادة من الغاز الطبيعي المتوفر بكميات ضخمة لتوفير الطاقة اللازمة للتحلية، في ذلك الوقت، أما الآن فالبديل الذي استخدمته دول كثيرة أشد فقرا في المياه من ليبيا لكنها تتمتع بسواحل على البحر، هو استخدام الطاقة الشمسية المتجددة والنظيفة.
يشير الوزير بوفليقة إلى “أن توطين محطات التحلية في البلاد يحتاج إلى مبالغ مالية كبيرة جدًا.”، وسأروي هذه الحكاية من الذاكرة فيما يخص إمكانية توطين مشاريع التحلية، ليس بتكاليف باهظة ولكن بمردود اقتصادي مهم على ليبيا.
المهندس فهيم المحجوب الحصادي أحد الخبراء في مجال الكهرباء ومحطات التحلية، حين ادرك العام 2011 أنه مصاب بمرض عضال عكف على كتابات دراسات مستقبلية تخص هذا المجال انطلاقا من خبرته الواسعة، وأذكر أنه أخبرني أن شركة ألمانية كبرى تختص بتقنيات تحلية المياه المالحة عرضت على السلطات الليبية مشروع استثمار استراتيجي في هذا المجال، حيث من المفترض بعد 10 سنوات أن توفر ليبيا من المياه العذبة ما يعادل ما يوفره النهر الصناعي، وأن تصبح المصدر الرئيسي لتقنيات التحلية في الشرق الأوسط الذي يشهد إقبالا على التقنيات المائية الحديثة، وينظر الخبراء الألمان في هذا الاستثمار إلى موقع ليبيا المهم وتمتعها بساحل طوله 2000 كم مازال معظمه خاما وبعيد عن مصادر التلوث، وعن ساعات سطوع شمس طويلة أثناء العام مما يوفر طاقة شمسية رخيصة ونظيفة ومتجددة لهذا المشروع الرائد، كما سيوفر آلاف فرص العمل للشباب الليبيين، لكن هذا العرض رُفض وقتها لأسباب تتعلق بذهنية الانغلاق والتوجس التي سادت سيكولوجية النظام السابق لعقود وحرمت ليبيا من مجالها الحيوي المتوسطي باندماجها في فضاءات عاطفية يحركها وجد قومي أو قاري وتبررها حسابات سياسية تحولت إلى عبء على الخزانة الليبية، وانا متأكد أن هذا العرض مازال وسيستمر لفترة طويلة مغريا جدا للصناعات المتعلقة بتقنيات تحلية مياه البحر مع شح الموارد المائية الذي يشهده العالم ومنطقة الشرق الأوسط خصوصا. وبعد أكثر من نصف قرن من ضخ النفط والغاز يشير الوزير إلى أنه ”لا يوجد في ليبيا إلا ثماني محطات لتحلية مياه البحر، خمس منها خارج الخدمة، فيما تعمل البقية بنسبة 30%”.
أضاف الوزير “أن مدن ليبية عدة تُعاني من شحّ المياه، وأبرزها الجبل الغربي، موضحًا أن آبار الجبل الغربي تصل إلى أعماق كبيرة تقدر 800 متر، وسعر سيارة نقل المياه بلغ 300 دينار.”
وهنا سأتطرق إلى دراسة أجريت بداية القرن العشرين، ورغم أن المدة طويلة إلا أن نصيحتها للتغلب على مشكلة المياه في بعض مناطق ليبيا، خصوصا المتمتعة بنسبة هطول أمطار مهمة، مازالت قائمة، حيث بعث المؤتمر الصهيوني بداية القرن العشرين فريقا من الخبراء في مجالات عدة لدراسة منطقة برقة وإمكانية ان تكون وطنا لدولة اليهود المنشودة، ووصلت هذه الدراسة إلى نتائج مشجعة فيما يخص الكثير من المقومات، لكنها وقفت عند ملاحظة تقول أن المياه المتوفرة في هذه البقعة لا تكفي لاستيطان ملايين اليهود، ولكن، لأنها، تتمتع بنسبة سقوط أمطار سنوية مشجعة يمكن التغلب عليها بإنشاء السدود والصهاريج، أو ما يسمى حصاد الماء، حيث تذهب مليارات الأمتار المكعبة من مياه الأمطار سنويا إلى البحر، وفوق ذلك تجر معها ملايين الأطنان من التربة الزراعية . وهذا بدوره ينطبق على الجبل الغربي الذي تشير سجلات الأرصاد الجوية إلى كميات مهمة من الأمطار التي تهطل فيه سنويا. وهو الشأن الذي لم تلتفت إليه عقود سابقة من ضخ النفط بأسعار عالية في بلد يتوفر فيها الحديد والإسمنت بكثرة، ومصادر التمويل الضخمة، لإنشاء أعداد هائلة من السدود والصهاريج، والتي لم يُنشأ منها إلى نزر قليل، وحتى ما أنشيء من سدود لم تكن الغاية منه حصاد الماء ولكن إما لحماية بعض مناطق العمران السكاني، أو لتغذية الخزانات الجوفية، وباعتبار المصدر الرئيس لمياه الاستهلاك هي المياه الجوفية (المكلفة) والتي تشكل حوالي 97% من إجمالي المياه المستهلكة في ليبيا وتقدر بحوالي 4.8 مليار متر مكعب سنويا، وبعد تشغيل منظومة النهر الصناعي أصبح يشكل ما نسبته 55% تقريبا من الاستهلاك المحلي، دون أن يتوقف الحفر الجائر للآبار الذي يهدد بجفاف أو غور أو زيادة ملوحة خزانات جوفية عدة. ولهذا الحفر الجائر حكاية.
نهاية التسعينيات من القرن الماضي، اجتمع القذافي بخبراء الهيأة العامة للمياه في ليبيا، وكان اللقاء منقولا مباشرا وتابعته، وتحدث الخبراء عن أوضاع المياه ومستقبلها وعن نظم الهيئة وخططها وقوانينها، وهي فعلا كانت إحدى المؤسسات المنظمة جدا وتحوي العديد من الخبراء البارزين، وفروعا عديدة في مناطق من ليبيا، ومن ضمن ما تحدثوا عنه ضوابط متشددة لإجراءات الحصول على ترخيص لحفر الآبار. وأذكر جيد أنه بعد أسبوعين من هذا الاجتماع، صدر قرار يسمح لأي مواطن يريد حفر بئرا جوفي أن يباشر دون شرط الحصول على ترخيص، وهكذا خرج الأمر عن سيطرة الهيأة العامة للمياه التي كانت تراقب بشدة مستوى الماء في الخزانات الجوفية، والتي كانت تطالب بإنشاء السدود على الأودية لتجديد هذه الخزانات دون استجابة من جهات التمويل.
مشكلة شح المياه العذبة أو الصالحة للاستهلاك البشري أصبح الآن أزمة كونية، وكل الدراسات تحذر من قتامة المستقبل المائي لسكان الأرض جميعا وحتى الدول التي تجري فيها أنهار كبيرة، وتظل المشكلة هي إدارة الموارد المائية وليس فقر هذه الموارد.
سأنهي باقتباس من مدونة “ليبيا 2025، رؤية استشرافية: ثقافة نهوض وتنمية” الجزء المتعلق بالتقارير القطاعية، الذي أعده مركز البحوث والاستشارات. جامعة قاريونس، تحت إشراف مجلس التخطيط الوطني العام 2007 ـ 2008.
حيث ترد بعض الإحصائيات التي تعود إلى العام 2006: “يبلغ إجمالي استهلاك المياه في الاستعمالات الزراعية حوالي 3.8 مليار متر مكعب/ السنة. أي ما يعادل 78% من إجمالي الاستهلاك العام، بينما يقدر الاستهلاك الحضري بحوالي 603 مليون متر مكعب/ السنة، أي ما يعادل 12%. ويبلغ ما تستغله الصناعات النفطية 75% من هذه الكمية. الجدير بالذكر هنا أن المصادر غير المتجددة تشكل 87% من إجمالي المياه المستغلة حاليا في ليبيا. لذلك من المتوقع أن يكون هناك عجز مائي ربما أعلى من التقديرات السابقة (…) مما يتطلب ضرورة توفيق العناصر المسؤولة عن رسم السياسات المائية والبيئية بليبيا، خاصة في ظل ما أشار إليه تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنة 2006 إلى أن قضية المياه تعتبر من القضايا المهمة والمرشحة أن تكون قضية عدم استقرار على المستوى العالمي (….) ومن هنا تبرز أهمية الاتجاه إلى إعادة استخدام المياه المعالجة وترشيد الاستهلاك والاستفادة من الطرق المختلفة لحصاد المياه وتبني طرق تحلية المياه المالحة باستخدام الطاقة الشمسية لتنمية المصادر المائية غير التقليدية، خاصة بعدما أصبحت الاتجاهات تشير إلى انخفاض متوسط نصيب الفرد من المياه على مستوى الوطن العربي.”.
وأضع هنا إشارات مهمة تعليقا على ما سبق:
ــ هذه الأرقام سُجلت قبل 15 سنة، وخلال هذه الفترة حدثت فوضى كبيرة فيما يخص الوضع البيئي والمائي في ليبيا.
ــ النفط والغاز الذي من المفترض أن يسهم في توفير بنية تحتية لإيجاد مصادر غير تقليدية للمياه هو ما تستهلك صناعاته 75% من المياه المخصصة للاستهلاك الحضري.
ـ كما أشير إلى أن النهر الصناعي يعتبر أحد مصادر المياه غير المتجددة، وفي حوار أجري مع عالم وكالة الناسا الجيولوجي فاروق الباز، قال عن مشروع النهر الصناعي، ما مفاده، إذا استغل في مشاريع زراعية ضخمة في الترب الليبية الخصبة في الشمال سيكون ذا جدوى عظيمة، أما إذا صرف على مؤخرات السواح في الفنادق فسيكون كارثة.
أخيرا فإن إدارة الجباية التي أشار إليها الوزير، وأشار إليها التقرير، من أهم السبل العملية التي تسهم في ترشيد الاستهلاك وفي توفير سيولة من أجل تطوير القطاع، وعهدي بعدادات المياه يرجع إلى أوائل السبعينات إذ اختفت بعد ذلك تماما، حيث كان المواطن يذهب شهريا لتسديد ثمن ما استهلكه من مياه وفق قراءة العداد والآن وصل العالم إلى تقنية الدفع المسبق، لكن مع التسيب الذي انتشر أصبح الاستهلاك العشوائي للماء العذبة النادرة يهدد بخطر على المستقبل المائي، كما أن جريان مياه الصرف الصحي في الأودية أدى ويؤدي إلى تلويث خزانات ضخمة من المياه الجوفية بشكل يجعلها غير صالحة للاستهلاك.
وأعود لأقول أن أزمة شح المياه تكمن في سوء إدار الموارد وعدم التخطيط السليم، حيث مازلنا نتعامل مع مصادر المياه بعقلية (الرُّحل) الذين يتركون المكان أطلالا بعد أن تجف مصادر الماء فيه. وربما هذه العقلية هي التي أفضت برأس النظام السابق أن يطلب من الليبيين النزوح إلى “جنة” أفريقيا حيث ليبيا تعاني من شح المياه، بل صدر قرار بدفع مبلغ مالي لكل مواطن يرغب في الهجرة إلى دول أفريقية.