شحَّات الغافية على تخوم التاريخ
خاص لـ 218
قورينا المسافرة أبدًا نحو عمق التاريخ الإنساني، تجعلك تعيد النظر في علاقتك مع الجمال والمكان؛ إنه امتزاج الأزمنة المتأهبة لخلق لحظة انسجام وتواصل بين الإنسان وأسلافه الذين تَرَكوا رسائلهم الخالدة. أسباب كثيرة تدفعك لزيارتها، غير أن قورينا تختار دائما من يحبها كما تقول الأساطير الإغريقية التي ما انفك يتردد صدى رنينها في أعماق وديانها وكهوفها وتلالها وغاباتها
لكن الصورة ليست كما تبدو عليه، فأينما وليت وجهك داخل المواقع الأثرية في قورينا، تلاطمك الخربشات التي تخدش حياء التاريخ وعظمته، وتُفقد المكان بهجته، وتنتزع الدهشة من المشهد، ليحلّ الأسف والغضب مكانها. حيث تتعرض اليوم مدينة شحات الأثرية لحملة ممنهجة من السلوك التخريبي غير المسؤول الذي لا يتورّع عن الاعتداء على هذه الهوية الإنسانية والوطنية أيضا. وفي غياب الإحساس الجماعي بقيمة الإرث الإنساني وضرورة المحافظة عليه من العابثين، يثور السؤال عن مدى فاعلية الخطاب البيئي التوعوي الموجّه للمجتمع.
الكنيسة الشرقية Cyrene: The East Church بين الماضي و الحاضر 1965- 2017
لم يقتصر الأمر على تداعيات الخراب الفردي، وإنما دخلت ثقافة اكتساح المناطق الأثرية تحت ادّعاءات عناوين الملكية الخاصة، وزحف المعتدون على مواقع أثرية عذراء، بُغية البناء والعمران والاستثمار في تشييد الشقق والشاليهات. أكثر من ذلك، أقيمت البنايات وتطاولت على شواهد أثرية ظاهرة، دون أي تدخل من الجهات الرسمية في المنطقة
ووسط تلك القتامة، ومن بين غيم العبث المتكاثف الذي يغطي سماء قورينا، تبزغ شمس “قسم الترميم في مراقبة آثار شحات” التي توارب الصحو، وبالقليل من الضياء تعيد للتاريخ صورته الأولى.
تهديدات كثيرة تطال المواقع والشواهد الأثرية، فبعد موجة الزحف العمراني، ها هي جذور النباتات التي انتشرت بسبب غياب المتابعة، تلحق الكثير من الأضرار بالأماكن الأثرية.
جدير بالذكر أن “مراقبة آثار شحات” كما وضّحت عبر صفحتها الرسمية على الفيسبوك، كانت قد وضعت برنامجا لمتابعة وحماية المواقع الأثرية وفق جدول زمني محدد، في انتظار الظروف والإمكانيات المناسبة لوضع هذا البرنامج موضع التنفيذ وفق ما خطط له
لا شيء يبتسم للزمن إلا تلك الحجارة التي استطاعت الصمود والبقاء خارج حركة التاريخ ووسط عواصف العبث والتدمير، في انتظار أن يتحقق وعي جمالي وتاريخي ومعرفي بأهمية الإرث الإنساني، والمسؤولية المترتبة على الصدفة الجغرافية التي أوجدت تلك المعالم الأثرية في بلاد غنية بكل شيء إلا الإنسان الملتحم بالبيئة والطبيعة