(سؤال النقد)
المهدي التمامي
كثيرًا ما يتساءل المبدعون الجدد عن الوجود النقدي في المشهد الأدبي الليبي؛ والحقيقة أن هذا سؤال من الأسئلة المهمة جدًا، إذ كان غالبية المبدعين السالفين يحصلون على شهادات ميلادهم من نقاد معاصرين.
أنا أيضًا أتفق مع مقولتهم إلى حد كبير، حيث أن النقد الليبي بصفة عامة عاجز عن مواكبة الإبداع، فالناقد الليبي ناقد كسول، والمبدع الليبي في المقابل ناشط جدًا، وهنا أقصد المبدع الذي يمتلك موهبة حقيقية، تمكنه من العثور على الكلمة المضيئة، التي يصدح جوفها بالغزارة النفسية.
لكن الذي ينظر إلى المشهد الأدبي في ليبيا يجد فيه عدداً كبيراً من المبدعين اللامعين، بينما يقابله عدد ضئيل من النقاد بالمعنى الاحترافي للكلمة، كما أن هناك مشكلة أخرى جلية تأخذ وجهين، فمن ناحية ينحسر الجانب النقدي ولا يتقدم، ومن ناحية أخرى ينشغل المبدع عن ضرورة النقد، وهذه إشكالية يطرحها النقد والإبداع معًا.
ففي ظل الظروف التي يعيشها المبدع صار انشغاله بهمومه اليومية؛ في محاولة قاسية للافلات من موته المبرمج، وهذا ما يجعله يشعر بالانكسار؛ وقد يصل هذا الشعور الي درجة أخرى من “السأم المورافي” تغيب فيها العلاقة والترابط بين الأشياء.
وهذا ينسحب، حسب رأيي، حتى على النقاد أنفسهم، لذلك لا نجد عندهم أي نوع من التلاحم الفكري، على الرغم من وجود المحبة والعاطفة بينهم، إذن نحن نحتاج إلى نقاد متلاحمين، بعيدًا عن النسقية وأسئلة الهدم والسبق… نقاد يجلسون على طاولة واحدة يحددون المصطلحات ويجترحون النظريات، لأن المبدع في حاجة إلى هذه الأشياء ليكتمل الإطار، وبدونها يظل النص يجابه ارتدادات الصدى في القراءات الانطباعية العابرة في الصحف وبرامج الفضائيات.
أما حين تتضافر القراءة النقدية مع النص الخاضع للنقد فهنا تتخلق قدرة عالية على اكتشاف نقاط الإبداع من خلال الغوص في أعماق النصوص، وتأويلها بغية الوصول إلى مكامن جمالها الخفي.
كما أنني أتساءل، هل من الواجب أن تظهر عندنا مدارس شعرية مثل (المهجر، أبولو، الديوان، الشعر الحر، مجلة شعر…) أم أن زمن هذا النسق قد ولى، وأن علينا قراءة الثقافة العالمية وتطبيق هذه الثقافة وأطروحاتها على الأدب المحلي؟
ما أؤمن به أن أغصان الشجرة لا يمكنها أن تشرئب إذا لم يكن لها جذور، وأن استيراد الثقافة الأخرى قد تكون بلا عطر كأزهار البلاستيك.
أنا هنا لست مع أسطرة التراث النقدي لمن سبقنا، لأن لهم شروطهم الثقافية والاجتماعية التي أنتجوا من خلالها تلك المدونة الغنية. علينا أن نأخذ من التراث بقدر، ومن الراهن بقدر، ومن ثقافة الآخر وهموم الإنسان العصرية وما يستجد على الساحة الإبداعية بقدر أيضًا، ينبغي أن يتقاطع النقد مع كل تلك الشؤون النقدية على حد سواء، لا أن ينقطع عن بعضها إرضاء للبعض الآخر، وهذا يؤدي إلى القول بأن النقد التأسيسي يتحدد وفق قاعدة ثقافية، اجتماعية، وربما حتى سياسية في بعض الأحيان.
هذا النقد هو الذي بإمكانه التفاعل مع اللحظة الراهنة، اللحظة الواعدة، أي أننا نريد نقدًا يعمل على نصوص ساخنة، النصوص التي نرى فيها انكسارات المرايا، فلا نستغرب، والحال على ما هي عليه غرائبية بكل الطرق، أن نشهد عودة السوريالية في صورة جديدة تعكس مخاوف الإنسان، ورعبه، وكوابيسه، وهذا يحتاج خطابًا نقديًا موازيًا، خطاب يحتاج إلى مؤسسة ثقافية داعمة تنظر إلى النقد كمشلة تستوجب الاهتمام كأي مجال من مجالات الإبداع الأخرى.