“سوار الذهب” رمز الرومانتيكية بذاكرة “الانقلابات العسكرية”
سالم العوكلي
إبان الربيع السوداني منتصف الثمانينيات، وخروج حشود من كافة طوائف وتشكيلات الشعب إلى ميادين الخرطوم، تطالب بإسقاط النظام، ظهر اسمه على السطح كعسكري ينحاز بمؤسسته إلى مطالب المحتجين، حيث كان وزيرا للدفاع وقائدا عاما للجيش، وقاد انقلابا على النميري الذي كان في زيارة إلى الولايات المتحدة لمساعدته على احتواء الأزمة. إنه المكنى بسوار الذهب، ذلك الاسم الرومانسي، الشبيه باسم مسلسل درامي، الذي أصبح فيما بعد أيقونة العسكر الرومانتيكية، ونموذجا حيا لفكرة التخلي عن السلطة في مجتمعات سقط من قاموسها السياسي وصف (الرئيس السابق) ولم تعرف سوى وصف “الرئيس الراحل” أو “الرئيس المقبور” .
وعد الفريق أول، عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب، وزير الدفاع والقائد العام لقوات الشعب المسلحة آنذاك، الجماهير الثائرة بأنه سيسلم لهم السلطة، وبعد مرحلة قصيرة أوفى بوعده على غير العادات الدارجة في تقاليد الانقلابات الأفريقية والعربية.
وسلم سوار الذهب مقاليد السلطة للحكومة الجديدة المنتخبة برئاسة رئيس وزرائها، الصادق المهدي، ورئيس مجلس سيادتها، أحمد الميرغني، واعتزل العمل السياسي متفرغاً لأعمال الدعوة من خلال منظمة الدعوة الإسلامية كأمين عام لمجلس أمنائها.
وهذا الإيفاء بالعهد جعل منه، آنذاك، أيقونة للتيارات المعارضة للنظم العسكرية، ومضرب مثلهم في أخلاقية الانقلابات المنحازة للشعوب ومهنية المؤسسة العسكرية، بقدر ما كان محرجا ومزعجا لتلك النظم العسكرية المحيطة بالسودان والتي جميعها وعدت الحشود المؤيدة لانقلاباتها بتسليم السلطة للمدنيين لكنها لم تفِ بوعودها أبداً، واستمرت في الحكم عقوداً حتى تحولت إلى دكتاتوريات مزمنة، إلى أن أطيح بها عبر انقلابات أخرى، أو عبر ثورات الربيع العربي 2011 الذي تعود جيناته لذلك الحراك المعزول في الخرطوم قبل ربع قرن .
حين شاهد النهاية الدموية لدكتاتور رومانيا، تشاوسيسكو، وسط بوخارست، علق سياسي سوداني قائلاً: “عجبا، لماذا لم يستفد أنصاره من تجربة سوار الذهب؟!”. لكن إلهام التجربة الفريدة، آنذاك، لم يتجاوز حتى حدود السودان، وبقى استثناءا خاصا بالخرطوم، رغم أن الأنظمة الأشد استبدادا من نظام النميري كانت على الحدود، وكان من الصعب أن يعبر هذا الإلهام الصحراء الكبرى والمتوسط، مثلما تفعل الهجرة غير الشرعية الآن، كي يلهم أعوان تشاوسيسكو للتدخل لصالح الشعب الروماني وحقن دماء عشرات الألوف.
لكن هذه التجربة التي تم العمل بمثابرة على عزلها ومحاصرتها عن المحيط وجعْلُها تجربة سودانية فقط، انتقلت عدواها بعد عقدين إلى دولة عربية مطلة على الأطلسي، عندما أطاح في موريتانيا العسكري المغمور والهادئ والوفي لمؤسسته، محمد ولد فال، بحكم معاوية ولد الطايع عبر انقلاب عسكري، وبعد فترة انتقالية سلم السلطة كما وعد إلى الرئيس المنتخب، عبد الله ولد الشيخ، الذي فاز في انتخابات رئاسية أشرف عليها ولد الفال بنفسه، قبل أن يترك الكرسي الوثير طوعا ويشد رحاله صوب البادية. وأججت هذه التجربة النخبة من جديد في الشارع العربي الذي بدأ يتلمس إمكانية هذا التغيير السلس والآمن، وقد شاهدتُ، العام 2007 ، مظاهرة لحركة كفاية في ميدان التحرير تحمل لافتات تطالب بتبني التجربة الموريتانية . لكن الانتقال الديمقراطي في السودان أُجهِض بوصول جماعة الإسلام السياسي إلى السلطة وسط قصور الأحزاب البديلة لتتحول إلى نموذج الدولة الثيوقراطية المستبدة الذي يصل زعيمها إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع، بينما تعرضت التجربة الموريتانية لانقلاب عسكري آخر أرسى نفس التقاليد الديمقراطية في المنطقة التي تجعل من مراكز الانتخابات مجرد ديكور لديمقراطية عالم ـ ثالثية. وظل سوار الذهب رغم كل شيء رمزا رومانسيا يراود مخيال النخبة العربية التي عاشت عقودا تؤمن بأن الإصلاح لا يمكن أن يأتي إلا من داخل المؤسسة الحاكمة نفسها، وحتى عندما قامت ثورات شعبية عارمة انتكست لتقتنع أخيرا بأنه لابد من المرور بجسر العسكر من جديد للوصول بأمان إلى ضفة الديمقراطية الأخرى التي لا يبدو أنها تختلف كثيرا على الضفة السابقة.
بعد ربع قرن انبثق عن رومانسية سوار الذهب ما يمكن أن نسميه الواقعية الجديدة في مصر المجاورة، حيث تدخلت المؤسسة العسكرية لمؤازرة الحشود المنتفضة بقيادة وزير دفاع متدين وهادئ ومخلص لمؤسسته، مثل سوار الذهب، وانحازت للشعب ضد النظام الأخواني الذي وصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، لكنه خلال سنة كان النظام الجديد يرسي قاعدة جديدة للإقصاء والاستبداد باسم الدين، والتأسيس لدولة ثيوقراطية محكومة بنظام الحزب الواحد.
الواقعية الجديدة تمثلت في مصر عبر نزول العسكري إلى الانتخابات بعد أن خلع البزة العسكرية، بعكس سوار الذهب الذي سلم السلطة للمدنيين، ليتفرغ لأعمال الدعوة الإسلامية، مخلصا لتاريخ عائلته الدعوي العريق.
غادر السلطة فعلا، ولم يتحول إلى دكتاتور يحكم بقبضة من حديد عقودا كاملة بذريعة الحفاظ على الثورة، أو قيادتها التاريخية، وبأكذوبة أنه سلم السلطة للشعب.
صباح السادس من ابريل (نيسان) عام 1985 ألقى، سوار الذهب، بكامل زيه العسكري، بيانه رقم 1 الذي قال فيه: “لقد ظلت القوات المسلحة خلال الأيام الماضية تراقب الموقف الأمني المتردي في أنحاء الوطن وما وصل إليه من أزمة سياسية بالغة التعقيد. أن قوات الشعب المسلحة حقناً للدماء وحفاظاً على استقلال الوطن ووحدة أراضية قد قررت بالإجماع أن تقف إلى جانب الشعب واختياره، وان تستجيب إلى رغبته في الاستيلاء على السلطة ونقلها للشعب عبر فترة انتقالية محددة، وعليه فإن القيادة العامة تطلب من كل المواطنين الشرفاء الأحرار أن يتحلوا باليقظة والوعي وان يفوتوا الفرصة على كل من تسول له نفسه اللعب بمقدرات هذه الأمة وقوتها وأمنها”.
صبغت هذه النبرة جميع بيانات الانقلابات العسكرية العربية، لكن ما جعل من كلام سوار الذهب ذهبا كونه أوفى بوعوده جميعها وفي الوقت المحدد.
رافق الفترة الانتقالية عدة إجراءات مركزية لتهيئة البلاد إلى الانتقال السلمي إلى الحكم المدني، فصدرت عدة قرارات نصت على تعطيل العمل بالدستور القائم، وإعلان حالة الطوارئ، وإعفاء السلطات القائمة، وحل حزب الاتحاد الاشتراكي، وكانت الأهداف المعلنة لهذه المرحلة الانتقالية تتمثل في كونها لا تهدف إلى استبدال نظام عسكري بآخر، بل أنها جاءت لاحتواء الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المترتبة عن فترة الحكم الماضي، إضافة إلى تحرير ميثاق وطني يرتكز على ثوابت الاستقلال التام والوحدة الوطنية. وفي التاسع من ابريل 1985 تم الإعلان عن تشكيل مجلس عسكري انتقالي لممارسة أعمال السلطات التشريعية والتنفيذية برئاسة الفريق أول سوار الذهب، ونائبه الفريق أول تاج الدين عبدالله، وعضوية 13 ضابطا من الجيش، وتشكيل حكومة أزمة مدنية برئاسة الدكتور الجزولي دفع الله .
لكن هذه الفترة لم تخلُ من القلاقل والخلافات بين الأطياف السياسية الساعية للاستيلاء على ميراث النميري الشاغر، ولم ينجُ سوار الذهب نفسه من الانتقادات الحادة حيث اتهمه اليساريون بأنه ينحاز للإسلاميين الممثلين في الجبهة الإسلامية بزعامة حسن الترابي، وفي النهاية نال حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي الأغلبية في الانتخابات التي أشرف عليها سوار الذهب بنفسه، وخرجت السودان من دكتاتورية النميري لتقع، فيما بعد، في قبضة دكتاتورية أشد طغيانا ممثلة في حكم الإسلام السياسي الذي وصل أخيرا بالسودان إلى انفصال الجنوب، وبالرئيس لأن يكون مطلوبا في المحكمة الجنائية الدولية بتهمة جرائم ضد الإنسانية.
يقول سوار الذهب كرد على من استغربوا تصرفه وتخليه عن السلطة بتلك السهولة :”ليس هناك ما يدعو للعجب فما قمت به في ذلك اليوم شيء عادي”.
فهل حقا ما قام به شيئا عادياً ؟ وهل مازالت رومانتيكية هذا السوار صالحة وقابلة للاستلهام، وبإمكان قادة عسكريون انحازوا للناس وقت الشدة أن يفوا بوعودهم بتفعيل المسار الديمقراطي؟ أم أن عصر الرومانسية انتهى أمام زحف الواقعية الجديدة بعد هذه التحولات الخطيرة في المنطقة ؟ أسئلة ستجيب عنه السنوات القادمة، وهذا المخاض العسير في المنطقة بعد سقوط أكثر من نظام عسكري، وبعد أن راجت أراء كثيرة تعتبر أن الربيع العربي لا يعدو كونه انقلابات أعادت تدوير النظم السابقة رغم ما رافقها من إكسسوار يوحي بكونها ثورات شعوب جذرية.