سلامة بين تفاؤل التاريخ وتشاؤم الراهن
سالم العوكلي
بعد أن وصل ليبيا كمبعوث أممي رابع بعد ثورة فبراير متفائلا بقدرته على حل أزمتها في زمن قياسي ، وبعد أن أعلن عن وجوده ومبادراته المتتابعه وتفاؤلة القوي في النصف الثاني من العام 2018 وبداية العام 2019 ، يختفي المبعوث الأممي السيد غسان سلامة من واجهة الحدث منذ شهر أبريل الماضي، ليكتفي بالنصائح في إدارة الحرب بنزاهة، وبإدانة بعض الأعمال غير المعروف مرتكبها، وبتدبيج تقريره الدوري لمجلس الأمن، الذي كان يتكرر بالصيغة نفسها منذ أن بدأ سلامة مهمته، لأن الأزمة تراوح في مكانها.
لقد بذل جهدا خرافيا، واصطدم تفاؤله بعناد ليبي لم يتبينه وهو يقرأ تاريخ هذا الجزء من العالم، فبالتأكيد اطّلع على مراحل تأسيس الكيان الليبي وعلى تجربة أول بعثة للأمم المتحدة إبان حصول ليبيا على استقلالها، وكان تفاؤله ينبع من هذه القراءة؛ حيث سارت مهمة تلك البعثة بسلاسة منقطعة النظير، واستطاعت أن تضع ليبيا على طريق الدولة في زمن قياسي، رغم ما كانت تعانيه ليبيا من وضع هش جعل الكثيرين الذي رفضوا أو ترددوا في منح الاستقلال لها يقولون أن هذا المكان وهذا المجتمع غير جاهز للاستقلال وغير قادر على تسيير شؤونه الحياتية، وفعلا كانت المعطيات النظرية تؤكد هذه الرؤية؛ حيث الأمية مطبقة، ولا موارد للدولة المرجوة، والمجتمع مازال في طور معالجة الأمراض الجسدية المزمنة وتأهيل السكان صحيا، غير أن الفرح باستقلال ليبيا وبكيانها الجديد الذي كان شبه مستحيل بعد أن وقعت في قبضة أعتى الفاشيات، هو ما جعل أمور تكوين الدولة تسير بسلاسة مستعينة بالخبرات الدولية والعربية والقلة من الخبرات الوطنية، والأهم من كل ذلك؛ مستعينة بالقوة الاجتماعية الفاعلة في قدرتها على إدارة نزاعات وصراعات هذا المجتمع الصغير، عبر الشيوخ والأعيان الذين أسهموا مع النخبة المثقفة في الوصول بهذا المجتمع المرهق من الجوع والحروب إلى بر الأمان والتعايش السلمي، وبهذه الجغرافيا القاسية الفقيرة لأن تكون وعاء لبداية تأسيس دولة دستورية في طريقها لتحقيق رغبات الناس. نعم كان للفرح المنبثق عن الحصول على الاستقلال دور كبير في التغلب على العقبات التي صادفت تكوين الدولة وتغلبت عن الضغائن التي تركها حكم فاشي خلفه. تكرر هذا الفرح نفسه بعد سقوط النظام ، وعبّر هذا الفرح عن نفسه بالعودة إلى مرحلة وإكسسوار الفرح القديم بالاستقلال (العلم والنشيد)، ومثلما ضرب المؤسسون الأوائل الحديد وهو ساخن، واستثمروا تلك العواطف الجياشة في إنجاز ما يسعى له العقل السياسي، كان على مؤسسي الدولة الجديدة بعد سقوط النظام أن يضربوا الحديد وهو ساخن، وأن يستثمروا تلك العواطف التي انفجرت بين الليبيين في تأسيس ثوابت الدولة الليبية الجديدة، وفي مثل هكذا مجتمعات تصبح العواطف ذخيرة مهمة لِما يسعى العقل لإنجازه، فنحن شعب عاطفي، إذا أحببنا أو كرهنا، وهذه العاطفة قد ترفع أشخاصا إلى مصاف الأبطال ثم تمسح بهم البلاط بسرعة إذا لم يستطيعوا أن يستثمروا منحنى العاطفة الإيجابية وهو في ذروته.
للتاريخ ؛ كان ثمة من لديهم وعي بهذه الخاصية للمجتمع الليبي، وللتاريخ دُبِّجت خارطة طريق على وعي تام بهذه الخاصية وكأنها تستفيد من إدارة حرارة العواطف التي حدثت بعد الاستقلال، وللتاريخ حذّر رئيس المكتب التنفيذي وقتها، د. محمود جبريل، من تمطيط إجراءات الشروع في بناء الدولة، وحذر مرارا من الفراغ السياسي الذي ستملؤه الأجندات الدولية والإقليمية والمحلية بكل ما من شأنه أن يضع العصا في الإطارات، وكل الحديث عن المبادرات الآن ، وبعد 7 سنوات، من توافق وانتخابات تشريعية ورئاسية وصياغة دستور، كان من المفترض أن يُنجز في العالم 2012 وفق خارطة الطريق تلك ، وحينما كانت المدن الليبية تتبادل الغزل في بعضها البعض، وحينما كانت المجموعات المسلحة تعد على أصابع اليدين أو اليد الواحدة ، وحينما كان الليبيون جاهزين بكامل ذخيرتهم العاطفية والعقلية للمشاركة في الانتخابات التي لم يجربوها سابقا. وللأسف لم يضرب الحديد وهو ساخن لكنه سَخُن في ميادين الحروب.
فماذا حدث ؟
بعد أول انتخابات تشريعية اكتشف تيار الإسلام السياسي أن لا قاعدة شعبية له، وهو كان موقنا بنجاحه بسبب جهله بطبيعة هذا المجتمع، وبوجدانه الديني الصوفي، وبانفتاحه السياسي على من يقدم برنامجا حقيقيا لمستقبل البلد ولا يزايد عليه في مسألة الشريعة أو الدين، وحين اكتشف هذا التيار الذي استطاع أن يتغلغل داخل المجلس الانتقالي ويسهم في صياغة تشريعاته، واستطاع أن يسيطر على الميديا المصاحبة لهذا التغير، حين اكتشف أن المسار الديمقراطي النزيه ليس في صالحه، فخخ هذا المسار بقوانين على الورق وجماعات مسلحة على الأرض ستكون هي البديل له عن المسار الديمقراطي للوصول إلى السلطة والتحكم في القرار، وكان في كل ذلك يتلقى استشاراته ومخططاته ودعمه اللوجستي من التنظيم العالمي للأخوان المسلمين (فنحن نعرف جيدا سذاجة وعدم خبرة الأخوان الليبيين في السياسة)، وكانت مرجعيتهم الجماعة القطبية التي سيطرت لفترة على مصر، وكان هذا خطأهم الاستراتيجي الذي ذهب بمشروع الدولة الليبية إلى الفشل حتى الآن، والذي جعلها تذهب للحروب بدل أن تكون في طوابير الانتخابات (كما يحدث في تونس) وكما لم يأخذوا بنصائح زعيم الأخوان في تونس القريبة منهم: الغنوشي، وذهبوا مباشرة إلى سماع نصائح الأنظمة في مصر فترة مرسي وفي تركيا وقطر والسودان.
وكان قدر هذه الشعوب التي انتفضت من أجل التحرر من القمع أن يعيدها هذا التيار إلى حيث بدأت، وأن يعيد المؤسسة العسكرية، مجبرة أو مختارة، لواجهة الصراع السياسي .
لقد اطلع السيد غسان سلامة على تجربة تأسيس الدولة الليبية السلس بعد الاستقلال، وجاء متحمسا ومتفائلا لحل مشكلة مجتمع غني بالموارد الطبيعية والبشرية، لا طوائف فيه ولا صراعات سياسية تقليدية ، غير أنه لم يحسب حساب هذا التيار الجديد على التاريخ والوجدان الليبي ، والذي عجزت حيال أجنداته حتى القوة الاجتماعية التي تملك خبرة واسعة في حل النزاعات، وأسهمت بقدر كبير في سلاسة تكوين الدولة الليبية الأولى ، لتخرج ليبيا من أيديولوجيا فارغة وساذجة حكمتها 4 عقود باستخدام الدين والشريعة والجهاد كأدوات ترويج لها، لتدخل أيديولوجيا إسلاموية جديدة استطاعت حتى الآن أن تحكم قبضتها على العاصمة وعلى موارد المجتمع وان تفتح بابا واسعا للتنظيم الدولي للتدخل في الشأن الليبي عبر أردوغانه الشبيه كثيرا بشخصية القذافي، وتميمه الذي استلم هو أيضا مهمة القذافي في تأجيج النزاعات في مناطق مختلفة.
أجهض الإسلاميون المشروع الديمقراطي المبكر في الجزائر، وأجهضوه في الباكستان وإيران وموريتانيا والسودان، وأخيرا في مصر، وقوضوا مشروع الدولة المستقرة في أفغانستان، وهددوا الديمقراطية في إندونيسيا وفي ماليزيا، ونكلوا بالحريات في تركيا عبر شخصية شعبوية تعهر مفردة الديمقراطية مثلما عهرها القذافي والخميني ، والآن يسقط هذا التيار مع صحوة الشعوب في الجزائر والسودان اللتين استفادتا من تاريخهما الشخصي ومن أخطاء الربيع العربي.
العشرية السوداء في الجزائر كانت هي الكابوس الذي يلتفت له الجزائريون فيصرون على سلمية ثورتهم الراقية متحاشين كل ما قد يعود بهم إلى تلك الحقبة الدموية ، وأتمنى أن تكون عشرية ليبيا السوداء التي قادها الإسلاميون كابوسنا الذي يجب أن يضعنا على مشارف رؤية سلمية جديدة للتغيير، تحقق فيها التيارات المدنية التي كانت في الظل طموحاتها بمساعدة مؤسستها العسكرية التي تدرك جيدا أن عصر النظم العسكرية قد ولى إلى غير رجعة، وإن كان مازال يحاول ترميم نفسه في بعض الأمكنة إلا أنه يلعب في (الإكسترا تايم) ولن يستمر في عالم أصبح من طبيعته أن يكون طاردا لأي حكم شمولي سواء جاء به مدني أو عسكري أو فقيه.
سلامة أدرك كل الصعوبات التي تواجه بعثته، وهو ابن الدولة التي خسفت بديمقراطيتها الميليشيات المسلحة أو الأحزاب ذات الأذرع المسلحة، يدرك جيدا أن مع هذه الميليشيات لن تصل ليبيا إلى حل سياسي ولا إلى استحقاقات ديمقراطية للشروع في مسار تأسيس الدولة، ويدرك أن لديه طرفا محددا في المعادلة يسيطر على كل السلاح التابع له وعلى القرار متمثلا في قيادات الجيش ولا طرف آخر محدد حيث المئات من أمراء الحرب المتضاربة مصالحهم وحيث السلاح المنتشر في منطقة نفوذهم لا يقع تحت سيطرة أي تراتبية، ولعل المتغيرات على الأرض تغربل هذه الفوضى وتؤدي إلى بلورة أطراف يمكن جمعها على طاولة المفاوضات وهي مسؤولة عن ومتحكمة فيما توقع عليه.
صَمْتُ العالم، أو بياناته الخجولة، ضد الحرب التي على مشارف العاصمة تؤكد هذه القناعة الناتجة عن خبرة المجتمع الدولي في إدارة الأزمات والاضطرار أحيانا لإعلاء وتيرتها كي يعاد ترتيب الأوراق وتكف الأزمة عن مراوحتها في مكانها، وكان الجدار الذي وقف أمام المسار السياسي يحتاج إلى انفجار لعل كوةً تُفتح، وهذا ما ينتظره العالم ويعطيه فرصة ليبلغ مداه. فلا أحد يريد الحرب أو يتمناها، خصوصا في عاصمتنا الجميلة طرابلس، وأتمنى أن يهيئ هذا الضغط كوة للوصول إلى حل سلمي تُفكَكُ بموجبه الميليشيات لتحل محلها المؤسسات العسكرية والأمنية الشرعية. فمع وجود الميليشيات المسماة على أشخاص فاسدين ــ التي شرعنها المجلس الرئاسي بدل أن يفككها وفق الترتيبات الأمنية كأول مهمة له، والتي أصبحت ذات نفوذ، والتي لا تخضع إلا لأمر أمرائها المدنيين وداعميهم من الخارج ــ لا يمكن التفكير في حل سياسي. وفي داخل طرابلس ومحيطها من الكوادر الأمنية والعسكرية العاكفة في بيوتها، والقادرة على تأمين العاصمة، وتوفير البيئة المناسبة لكل استحقاقات الشروع في استئناف مسار الدولة المدنية كمطلب رئيسي لثورة فبراير وميادينها. بينما ما زال غياب الشارع الليبي عن المشهد وانتظاره لكلمة المدفع يشكل عائقا أمام إيقاف العبث والفساد الذي يصاحب هذه الأزمة ويستفيد منها.
يضع الآن سلامة عينه على مؤتمر برلين ينعقد ضمن معطيات جديدة على الأرض تستفيد من فكرة أن الأزمة لن تصغر إلى حين تكبر، ومن كون القوى الفاعلة في ليبيا وصلت لرغبة حل المشكلة الليبية فعلا بعد أن قاسوا ميزان القوى على الأرض. وعلى أمل استصدار قرار من مجلس الأمن يلزم الأطراف خارج ليبيا وداخلها بالامتثال للحل السياسي الذي كما كررت مرارا لن يكون ممكنا إلا بعد تفكيك الجماعات المسلحة المسيطرة على طرابلس.