زحف الألفاظ
عمر أبو القاسم الككلي
اللغة، أية لغة (بما في ذلك اللغات المتداولة شفاهيا)، “كيان” حيوي يتطور حسب مقتضيات التطور الحضاري والثقافي الذي تمر به الشعوب، وإن بدرجات ومديات متفاوتة. إذ تخصص اللفظة عند أول ميلادها لمعنى محدد، ثم تشرع، عبر العصور، في الزحف على مناطق دلالية أخرى ملتهمة معانيَ جديدة لم تخصص لها عند ظهورها للوجود أول مرة، بحيث تخرج من دلالتها على المسميات المادية مثلا، لتدخل إلى الدلالات المجازية المجردة. وخلال هذا الزحف والنمو تنتهي بعض الألفاظ إلى أن تصبح ذات دلالة على نقيضها (= ضدها).
ففي مضمار استيلاء الألفاظ على دلالات مجازية، إضافة إلى معناها الأصلي المادي، يمكن أن نمثل بمفردة “طَعَنَ” المخصصة أصلا لخرق الجسد بأداة حادة مدببة، مثل قولنا “طعنه بالرمح” التي تعدت هذا الحد المادي إلى عالم المجاز كما في قولنا “طعن في السن” بحيث صارت تعني “تقدم” بدلالة مجازية. وكما في قولنا “طعن في شرفه، أو شرفها” بحيث تكون دالة هنا على مصطلح فقهي إسلامي هو “القذف”. وهناك أيضا تعبير “طعنه في الظهر” الذي يعني الخيانة والغدر.
وفي مجال انتهاء بعض الألفاظ، في مسيرة زحفها واستيلائها على معان جديدة، إلى معنى نقيض لمعناها الأصلي عند الولادة، يمكن أن نمثل بمفردة “عليل” التي كانت تعني في الأصل “سقيم” أو “مريض” بحيث أصبحت تعني، عندما يوصف بها الهواء أو النسيم، “منعش” او “شافٍ”. وقد جمع الشاعر ابن زمرك المعنيين في بيت شهير له:
“نسيم غرناطة عليل….. لكنه يبريء العليل”
فدلت لفظة “عليل” في صدر البيت على الإنعاش والصحة، ودلت “العليل” في عجزه على السقم والمرض. ولفظة “رائع” التي نعبر بها عن إعجابنا بالشيء شديد الجمال، كانت تعني، في الأصل “مُروِّع” أي مخيف، وحتى مرعب.
الجدير بالذكر ان الألفاظ من هذا النوع يطلق عليها في العربية مصطلح “الأضداد” وعددها، كما أحصاها الباحثونن منذ القديم، اربعمئة مفردة، من ضمنها مفردة “ضد” نفسها التي تعني النظير أو المماثل، أي النديد، بالنسبة إلى البشر، كما تعني المضاد أو النقيض.
ظاهرة الأضداد في اللغة يبدو أنها تشمل اللغات كلها، ففي الإنغليزية، مثلا، تعني مفردة sanction “عقوبة” كما تعني “مكافأة”، وهي بهذا تماثل مفردة “جزاء” العربية التي هي من الأضداد أيضا.
اريد أن أخلص من العرض أعلاه، إلى أن المنهج الأمثل في الاقتراب من النصوص القديمة، مقدسة كانت أو غير مقدسة، هو تحري دلالات الألفاظ المستخدمة فيها كما كانت متداولة في بيئة التلقي عند إعلانها وكتابتها.