ريغان والقذافي: عركة راعي البقر مع راعي الإبل
سالم العوكلي
شهد عقدُ الثمانينات صداما شخصيا بين الرئيس الأميركي رونالد ريغان وقائد ليبيا معمر القذافي، لا أتكهّن بأسبابه، ولا أعرف لِمَ شنّ القذافي ومريدوه حربهم الكلامية على هذا الرئيس بالذات؟ تلك الحرب التي انتهت بغارة على باب العزيزية، وبتفجير طائرة شركة بانام الأمريكية فوق قرية لوكربي في اسكتلندا.
عقد الثمانينيات، يعدّه الليبيون أسوأ عقد في تاريخهم الحديث، وعلى كل المستويات، فهو أشرس عقود حكم القذافي في آليات تصفية خصومه، التي تشبه ما تفعله قبيلة داعش الآن، وهو العقد الذي سخّر فيه أموال الدولة الليبية بكثافة لحروبه الصغيرة في أصقاع الدنيا، ودعمِه للجماعات المتمردة في كل القارات، شيوعية كانت أم إسلامية.
رونالد ريغان جاء من استوديوهات هوليوود، وترقّى في الحزب الجمهوري إلى أن وصل إلى البيت الأبيض، ورغم أنّه كان مهتما بقضايا ومعارك كبرى، على رأسها السعي لتفكيك الخصم العملاق، إمبراطورية الاتحاد السوفييتي، وحلمه الكبير المتمثل في حرب النجوم. لم يكن القذافي يشكّل أيّ قوّة إلا أنّه يملك ثروة نفطية، يسيل لها لعابُ كلّ الجماعات المناهضة للسياسة الأمريكية، من أورتيغا إلى نورييغا تاجر المخدّرات، الذي استولى على جزيرة بنما محروسا بفرقة من الموساد الإسرائيلي، وبدعم هائل من أموال الليبيين التي يرسلها له القذافي.
في حمّى بحثِ القذافي عن الضوء والخبر، قرّر الصدام المباشر مع ريغان الذي ما زال حتى تلك اللحظة يتجاهل قرصات القرادة المزعجة، فاختار ملهى ليليّا يرتاده جنود أمريكيون في برلين الغربية، وليلة 5 أبريل، لينقل معركته إلى اللحم الأمريكي مباشرة، فوضع رجالٌ من استخباراتِه قنبلةً تحت إحدى الطاولات، أدّى انفجارُها إلى قتل جنديين أمريكيين وجرح 79، واعتبرت الحكومة الألمانية أنَّ ما حدث أسوأ جريمة إرهابية في تاريخ ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية.
لا يعلن القذافي مسؤوليَّتَه عن العمليات الإرهابية، مثلما تفعل القاعدة أو داعش، لكنّ جهاز استخباراته المتواضع غالبا ما يترك الأدلة في مسرح الجريمة، وحُدِّدت مسؤولية القذافي عن التفجير بعد يوم واحد من الحادثة .
ريغان الخارج من آلة هوليوود الدعائية الكبرى، جاءته الفرصة ليخرج فيلمه الواقعي، الذي يؤكد أنّ الانتقام الأمريكي المتقن ليس في خيال هوليود فقط، لكنّه حقيقة ممكنة ستنضم إلى أرشيف البنتاغون العسكري، فقرّر إرسال طائراته وقاذفاته ليلة الخامس عشر من أبريل، بعد عشرة أيام فقط من تفجير الملهى، وانتهز الفرصة كي يستفيد من هذه المناورة الحيّة، فيختبر تقنيات الجيش الأمريكي الجديدة، من تزويد طائراتها بالوقود في الجو، إلى دقّة الضربات، إلى اختبار منظومة الاتصال السريع، وصبّ جام غضبه على معسكر باب العزيزية مأوى القذافي، وعلى أماكن أخرى، اعتبرها أوكارا إرهابيّة، في طرابلس وبنغازي.
ولأنَّ الغارةَ معلنة، ولم تكن سرية أو مفاجئة، لدرجة سمع بها أولاده في المدرسة، نجا القذافي، وباعتبار أن استراتيجية القرار في أمريكا كانت تسعى لتلقين القذافي درسا دون أن تقتله، نظرا لحاجتها لهذا النموذج الراديكالي الذي يقدّم لها خدمات جليلة، وهو في ذروة عدائه لها، ونزولا عند حكمة كيسنجر، مهندس السياسة الخارجية الأمريكية، التي مفادها: نحن نستفيد من أعدائنا الأغبياء، أكثر مما نستفيد من أصدقائنا الأذكياء.
دفع عشرات المدنيين الليبيين حياتهم ثمنا لـ”عنطزة” القذافي، بينما كان هو كما قال رفيقه عبد السلام جلود “تحت الأرض أثناء الغارة”. الضحايا ذهبوا طيّ النسيان لكنّ ابنة القذافي المتبناة (هناء) سيطرت على الإعلام الليبي بكونها ضحية هذا الهجوم، ليعرف الليبيون بعد فبراير أنّها ما زالت على قيد الحياة وأنّها ربيبته التي من صُلبه. لكن خبراء الدراما لديه يرون أنَّ الفيلم لن يكون مثيرا، إذا لم يمت أحدٌ من أفراد العائلة المالكة.
استمتع القذافي بسيطرته على الخبر الأول في نشرات الدنيا، حتى وإن كان تحت لافتة الإرهاب، واستمتع بهذه الغارة التي أعقبها بإجراءات من ديكور الحرب العالمية الثانية، فأمر بإزالةِ اللافتات المرشدة في مدينة طرابلس حتى لا يعرف الأمريكان حين يغزون ليبيا أين يتّجهون، ويقعون في كمائن اللجان الثورية التي لا تجيد سوى قتال وقتل المعارضين الليبيين، وأمر بتلوين مصابيح السيارات في كل ليبيا بالأزرق، وباستيراد مخزون من الطحين تحسّبا لهذه الحرب الطويلة بين القذافي وريغان، وليس أمريكا وليبيا، وروّجت قنوات الإعلام الكاذب أنَّ الدفاعاتِ الجويّة الليبية أسقطت ضعفَ عدد الطائرات المهاجمة فعلا.
وبدأ الإعلام الليبي ملحمة شتائِمه، وحشد اللجان الثورية تستكتب الشعراء الشعبيين لتأليف هتافات ضد ريغان وأمريكا، “داون داون يو إس أي” ، “طز طز في أمريكا الشعب الليبي عرف طريقه”. والكثير من الهتافات الركيكة. لكنّ الهتاف الأشهر هو (ريغان يا راعي البقر .. الشعب الليبي كله حر) باعتبار رعي البقر مسبّة عند رعاة الإبل، وعاشوا جميعا وَهمَ انتصارِ شرّاب حليب الناقة على شرّاب الويسكي وحليب البقر، طالما القذافي نجا من غارة، لم يكن هدفها القضاء عليه، لكن إيصال رسالة تخبره: أنت في متناول قاذفاتنا، وفي المخازن قنابل تخترق كل دشم باب العزيزية، حتى أعماق الأرض.
فترة بوش الابن، وبعد أن ضُربت أمريكا في عقر دارها، من تنظيم إرهابي كان أقوى من القذافي وترسانته، وحينما كانت السياسة الأمريكية جادة في القضاء على الخارج عن طاعتها صدام، فعلت ما لم تفعله في حرب الخليج الأولى، وشاهد القذافي من خيمته تمثال صدام وهو يتهاوى، وشاهده وهو يخرج من حفرة وطبيب أسنان أمريكي يضع مشعلا بين لحيته وشواربه، فأصابه رعب حقيقي، وقام بتسليم البنية التحتية للمشروع النووي الليبي مجانا وبسرعة، هذا المشروع الذي يقدر بعشرات المليارات التي كان تجنيبها وراء حياة التقشف التي عاشها الليبيون لعقود، ولم يكتف القذافي بإرسال هذه الشحنة الثمينة إنّما أرفق بها كل المعلومات السرية عن خبراء ومهندسي الأسلحة النووية في الشرق الإسلامي، وعلى رأسهم الباكستاني عبد القادر خان، الأب الروحي للقنبلة النووية الباكستانية، والذي استخدمه القذافي في مشروعه الذي لم يكتمل.
غادر ريغان كرسي الرئاسة مرفوع الرأس بعد ثمانية سنوات، وبعد أن قدّم خدمات لأمته جعلته أكثر الرؤساء شعبية في تاريخ الولايات المتحدة، وغادر القذافي خيمة الحكم بعد أربعة عقود بنهاية مروّعة، مخلفا خلفه خرابة اسمها “الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى”.