رهان باسكال والرهان على الوطن
أبو القاسم قزيط *
اختيارات الإنسان هي مستقبله بل هي الإنسان نفسه، وكثير من خياراتنا كانت صائبة في حينها، لكن اليوم يسربلها الفشل من أعلى الرأس حتى أخمس القدمين، وخيارات أخرى كانت عجولة متسرعة، لكنها صمدت للزمن ونوائبه كإشراقة إلهام، أو نداء غامض من السماء.
يقول سارتر لجساؤة في مقهى (لى دو ماقو)
إن الإنسان خالق نفسه أي صناعها، وإن الإنسان يخلق نفسه من خلال خياراته المتكررة التي تصنعه، ساتر لا يهون من الخيارات القدرية ويرى كل خيار هو مقامرة بالوجود نفسه، الإنسان حر في خياراته لكن لا مناص له من تكبد مسؤولية خياراته ورهاناته.
زار أحد الشباب الفيلسوف سارتر في مقهى لو دو ماغو كعبة اليسار الفرنسي إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها، طلب الشاب الباريسي من سارتر أن يوجهه وينصحه، فالشاب وحيد لأبوين هرمين ومريضين ويحتاجان عنايته، لكن الشاب غير مرتاح لخيار البقاء قرب والديه، والأمة الفرنسية تعيش أحلك لحظاتها في كل العصور، فدبابات البانزر النازية تسحق كل شيء أمامها في السهول الفرنسية، والجنرال غودريان يجعل الفرنسيين يتجرعون الطعم المر للإذلال.
رفض ساتر المقامرة بدلا عن ذاك الشاب الباريسي، وجعله هو من يختار ويقامر ويراهن، ويتحمل مسؤولية وتبعات ذلك.
خيارات الإنسان ورهاناته كانت ملهمة والمفتاح لفهم مغاليق النفس البشرية وحلا لألغازها وأحجياتها للمحلل النفسي العظيم المجري يبولد زوندي صاحب نظرية التحليل النفسي للقدر الذي يقول إن الإنسان يختار خياراته ورهاناته القدرية من مجموعة خيارات قدرية متاحة، حياته وسعادته كلها مرتبطة بهذه الخيارات، إذا كانت الخيارات ملائمة كان سعيدا معافى نفسيا، وإذا كانت خياراته سيئة يسقط في هاوية التعاسة والمرض، في بعض الأحيان يخطئ الإنسان في خياراته لكن بالإمكان إعادة توجيه الخيارات نحو الصحة والسعادة، لكن أحيانا لا يكون هناك مناص من التعاسة لأنه كان أفضل الخيارات السيئة.
بعد النمساوي فرويد والمجري زوندي نصل للمحطة التي عنونا بها مقالنا، للفيلسوف والرياضي الكبير بليز باسكال ورهانه الشهير حول وجود الله الذي يدلل فيه منطقيا أن الأكثر ربحا هو الاعتقاد في وجود الله، حتى لو لم يكن هناك دليل قطعي لوجوده.
ففي حالة الإيمان بوجود الله هناك ربح غير محدود حال تحقق وجود الله، وهو الخلود في الجنة وخسارة غير مهمة وهي الامتناع عن بعض اللذات وضياع بعض الوقت في العبادة.
وفي حالة عدم الإيمان هناك خسارة فادحة حال تحقق وجود الله، وهو الخلود في النار وربح غير مهم وهو إشباع الشهوات دون عقال من دين أو خوف من عقاب.
فالرهان على وطن سليم من الفساد، ينعم بالحريات يتحرك إلى الأمام، ربحه غير محدود حال وصلنا إلى الدولة الراتبة، وهذا الرهان خسارته محدودة؛ لأننا أنفقنا وقتنا دون تحقيق أهدافها، يلطف فاجعتنا في وقتنا الضائع الصيت الطيب، إننا عشنا وفق ما نعتقد في سلام داخلي وراحة ضمير.
أما الرهان على نهش وافتراس الوطن فهو مثل رهان باسكال على عدم وجود الله، فخسارته لا محدودة حال وصلنا للدولة الراتبة، عندها يكون من راهنوا على خنق الدولة في قمامة المجتمع، سيكونون في مقام إبليس الذي يرجم وستمطرهم الأجيال باللعنات.
وفي حال ضاع حلم الدولة الراتبة، لن يكون مكسبهم إلا لذات رخيصة، وتبكيت مرير الضمير.
رهاننا على وطن معافى ودولة راتبة يا سارتر سنتحمل مسؤولية هذا الخيار، وجاهزون لسداد الفاتورة من عرق ودماء ودموع.
نراهن على أمة ليبية واحدة تنصهر فيها مكوناتها، دولة مواطنة لا دولة قبيلة وعرق وحزب، هذا هو خيار العافية وغيره خيار الزيغ والتوهان والسراب، لا خيار آخر ممكن يا زوندي.
نراهن على ليبيا العظيمة كما راهن عليها الأجداد هو يا باسكال كما هو في راهنك فعلا الرهان على ليبيا ربحه وفير ومخاطره قليلة، أما الرهان على القبيلة والميليشا والدعم الخارجي وسرقة المال العام والاعتمادات فهو رهان خاسر؛ لأنه مخاطرة كبيرة ومنافعه متهافتة ورخيصة ووضيعة، فأي مصلحة شخصية تضيع مصلحة وطنية عليا.
العظماء هم من يراهنون على عزة بلادهم حال ضعفها وهوانها، هكذا كان ديغول وتشرشل، ورهانهم جعلهم يربحون حروبهم والتاريخ أيضا،
كلما ازدادت وعورة الطريق أدركنا أننا نسير على دروب الحقيقة، فرغم الإحباط والانكسار وشبح اليأس الماثل في الأفق، لكن كما يقول مارثن لوثر كينج من جبل اليأس يبزغ الأمل.
سيد باسكال هناك رهان أكثر صلابة ومنطقية من رهانك…. إنه رهان الليبيين على وطنهم.
* عضو المجلس الأعلى للدولة