رسالة مفتوحة إلى “شيعة” لبنان عن.. مطار بيروت
رؤوف قبيسي
يا أهلي في الجنوب وفي الضاحية، وفي بعلبك والهرمل، وفي قرى البقاع وبلداته وصروده، وفي كل منطقة من لبنان أسكنتكم فيها الأقدار بالقهر أم بملء إرادتكم، أخاطبكم بقلب عامر بالمحبة، وبصراحة ما بعدها صراحة أني بدأت أخاف عليكم. أخاف عليكم من سياسات ضيقة، وأحاذر عليكم من تدابير تعسفية تضعكم في موقف حرج بين أخوانكم في الوطن، وفي محيطكم العربي الكبير. تدابير لا يقبلها عقل، ولا تقرها شريعة، ولا يرتضيها كتابكم الكريم، ولو عرف بها إمامكم الجليل المغًيب السيد موسى الصدر لشجبها أشد الشجب وأقساه
في البدء أريد أن أبدد ظنون من قد يظن بي الظنون، ويحسبني رديفاَ لنظام أو تيار سياسي، أو حزب عقائدي. لست من ذلك كله بشيء، ولست من جماعة 8 آذار، ولا 14 آذار، ولا أؤمن بغير لبنان، دولة مدنية حرة مستقلة، لا حكم فيها إلا حكم القانون، ولا أحد فيها يعلو على أحد، مهما كانت ثروته، ومهما شأنه في الحياة العامة
سوف أشرح في سطور قليلة، سبب خوفي عليكم، وعلى نفسي، وعلى لبنان
لي صديق ليبي من رجال القانون والفكر والثقافة اسمه محمد عبد المطب الهوني. أحب أن يأتي إلى لبنان الذي عرفه في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وعشقه حتى العبادة، وسألني ما إذا كانت هناك محاذير على مجيئه، فطمأنته إلى أن الأوضاع في البلاد جيدة، ولا شيء فيها يدعو إلى القلق! لكن لم يكن هذا الصديق القادم من جنيف، والحامل جواز سفر إيطاليا يدري، ولا أنا كنت أدري، ولا موظفو شركة الطيران اللبنانية التي حملته على طائرتها إلى بيروت، كانوا يدرون أن الأجهزة الأمنية في المطار سوف تبقيه في قاعة الانتظار ساعات ست، قبل أن تسمح له بالدخول إلى الأرض اللبنانية
هل تعرفون سبب توقيف هذا الرجل؟ سوف أخبركم وفي النفس غصة.”جرمه” الوحيد أنه من مواليد ليبيا، هذا على الرغم من أنه كان يحمل جوازاً إيطالياً! تدابير عنصرية لا تستسيغها العقول، ولا مثيل لها في أي مطار في العالم. لست أدري ما إذا كان خطر في بال من أقرها، أن ضررها على ليبيا والليبيين، ليست شيئاً بالقياس إلى ضررها على لبنان. تدابير تستعدي شعباً ليبياً من ستة ملايين نسمة، ليكونوا ضد لبنان، و”شيعة” لبنان. أشهد، ويشهد معي الذين قرأوا سيرة موسى الصدر، وعرفوه حق المعرفة، أنه لو كان الآن حياً لانتفض ضد هذه التدابير العنصرية وغير الأخلاقية والمخالفة لكل ما آمن به الإمام الجليل في حياته وضحى من أجله، ولكان دان الذين أقروها ضد شعب عانى تحت حكم الديكتاتور الراحل، أكثر مما عانى شعب لبنان و”شيعة” لبنان، تدابير تضع لبنان في أحضان غير عربية، وتجعل كل “شيعي” لبناني يتساءل: هل لنا بعدُ من نصير واحد بين إخواننا العرب؟
لقد عانى “شيعة” لبنان عبر تاريخهم ما يكفي من المحن، وأي عاقل يدرك أن هذه التدابير تصب مزيداً من الزيت على نار التهميش والكراهية التي بدأ “الشيعة” اللبنانيون يواجهونها في حياتهم، وأعمالهم في بعض الدول العربية، نتيجة هذه السياسات الضيقة، الأمر الذي يجعلنا نتساءل: من المستفيد من هذه التدابير المرسومة على مزاج من أقرها، والمخالفة للقوانين وحقوق البشر، والمضرة بقطاع الأعمال وقطاع السياحة. كيف بمقدورنا بعدُ أن نبني الدولة المدنية المرتجاة، إذا ما ظللنا نصنّف الناس على أسس طائفية ومذهبية؟ أي مصلحة للبنان في استعداء الشعب الليبي وتحميل كل فرد منه المسؤولية عن خطف الإمام الصدر؟ من ثمّ، أليست هذه التدابير خيانة للثوار الذين أسقطوا حكم القذافي، وسبباً كافيا لإثارة الضغائن وحمل الليبيين على كره لبنان و”شيعة” لبنان، علماً أنه لا يوجد مواطن ليبي واحد لا يستنكر ما حصل للإمام موسى الصدر.
ماذا يريد المسؤول اللبناني الذي أقر هذه التدابير أن يقول؟ ماذا يطلب من ليبيا الجديدة الضعيفة حتى يلغي هذه التدابير، وهو خير من يعرف أن ليبيا اليوم تحكمها عصابات في حوزتها 24 مليون قطعة سلاح، وليس بينها مسؤول واحد موال للنظام القديم؟ ما المبرر لها إذن، ولماذا تمارس على المواطن الليبي البريء الذي لا ناقة له في ذلك ولا جمل، حتى توقفه السلطات اللبنانية وتهينه، أو تسجنه، أو ترده إلى من حيث أتى، كما حصل مع بعض الليبيين في مطار بيروت؟ أيريد هذا المسؤول اللبناني من كل مواطن ليبي بريء قادم إلى لبنان أن يدفع أثمان ما ارتكبه القذافي الراحل من أخطاء وآثام؟
لم يخطف الإمام الصدربسبب خلفية طائفية، وما جرى له جريمة وخطيئة بكل المعايير، ولا أحد في ليبيا يقرها. أما ردة الفعل في لبنان على جريمة الخطف هذه فغبية وقبلية بامتياز، ومخالفة للكتاب الكريم الذي تقول آياته “ولا تزر وازرة وزرة أخرى”! لا نقول ذلك لندفع عن”شيعة” لبنان فحسب، بل لندفع عن لبنان وسمعته بين الدول، وعن المكونات البشرية التي تتقاسم العيش فوق أرضه، الطامحة إلى صيغة إنسانية توصلهم جميعاً إلى التجانس المطلوب الذي يصون وحدة البلاد وكرامتها.
يعرف من أقر هذه التدابير أنها لا يمكن أن تكون قانوناً يقره مجلس الشعب، وينشر في الجريدة الرسمية، ليعلم بها القاضي والمحامي، والقاصي والداني، وهي لو اتفق وأقرت قانوناً، لاعتبر لبنان الدولة العنصرية الأولى في العالم، لذلك هي مرسومة على المزاج، وتذكرنا بمزاج القذافي الراحل الذي أخضع البلاد وفق أهوائه ونزواته، وكان يصدر توجيهات لا تنشر في الجريدة الرسمية الليبية، وتكون في غالب الأحيان فوق القانون، وضد مصالح ليبيا وشعبها!
“مطار الغدر”، هكذا توافقنا، الصديق الليبي وأنا، على وصف مطار رفيق الحريري الدولي، لأن ما حصل هو الغدر بعينه، وإهانة للدولة اللبنانية، بحكومتها ومجلس نوابها، وللدولة الإيطالية التي وصل الهوني إلى بيروت حاملاً جواز سفرها، ولشركة طيران “ميدل إيست” التي لم تنصح، أو لم تُعلم محمد عبد المطلب الهوني، وغيره من الليبيين الذين جاءوا إلى بيروت، بما سوف يواجهون أثناء هبوطهم في مطار بيروت من ضروب المذلة. مهما يكن، موظفو “ميدل إيست” معذورون فقد غُدروا أيضاً، كونهم لم يكونوا على علم بهذه التدابير، كما أن موظفي الأمن في مطار بيروت معذرون أيضاَ، فهم ينفذون الأوامر الصادرة من فوق! أقطع بأنه لو كان رفيق الحريري حياً وشهد ما يحصل، لطالب برفع اسمه عن المطار، لكن يبدو أن نجله سعد غير آبه هذه الأيام بسمعة والده الراحل وإرثه، فهو رئيس وزراء بالوكالة، وأمامه ملفات تستغرق وقته كله، كملف تأليف الحكومة وغيرها من الملفات المعقدة الشائكة!
الدكتور محمد عبد المطلب الهوني من كبار المفكرين اللبيين، ولا أعرف ليبيا أحب لبنان كما أحبه هذا الرجل. في كتابه الموسوم بعنوان “سيف الإسلام القذافي- مكر السياسة وسخرية الأقدار” يقول الهوني إن سيف الإسلام أخبره أن والده العقيد ارتكب ثلاثة أخطاء لا تغتفر، الأولى خطف الإمام موسى الصدر، والثانية محاولة لقتل الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، والثالثة مذبحة سجن بوسليم التي راح ضحيتها 270 معتقلاً بالرصاص.
هل يعرف المسؤول اللبناني الذي أقر هذه التدابير، أن مئات من اللبنانيين ولدوا في ليبيا؟! ما موقفه يا ترى من هؤلاء، وما موقف الأجهزة الأمنية في مطار بيروت منهم؟ هل تطبق التدابير ذاتها عليهم بحكم واقعة الولادة، أم يستثنون من الإجراء، ليتم ما جاء في كتب العنصريين حول سياسة الكيل بمكيالين؟!
أخيرا هل يعلم من أقر هذه التدابيرغير القانونية وغير الأخلاقية ضد الليبيين في مطار بيروت، أن ذيولها عكسية، وتجعل حتى الذين يملكون معلومات عن اختفاء الإمام الجليل سيرفضون التعاون لكشف الحقيقة عن وجوده!
بعد هذا كله، أهذا ما يريده اللبنانيون، خصوصاً “الحريصين” منهم على إرث الإمام المغيب، ومصالح “الشيعة” في لبنان؟!