رسالة إلى غسان سلامة.. هل ستنتهي الأزمة بـ “سلامة”؟
218TV.net خاص
سالم العوكلي
عرفت السيد الدكتور، غسان سلامة، من خلال متابعتي لتحليلاته الحاذقة منذ إن كان يقدم تقريره اليومي عن الأحداث السياسية في إذاعة البي بي سي، ومن خلال متابعتي لبعض حواراته أو كتاباته، وإطلاعي على كتابيه المهمين “المجتمع والدولة في المشرق العربي” من تأليفه، و “ديمقراطية بدون ديمقراطيين” من إعداده وبمشاركة باحثين عرب ومن الغرب .
هذا الرجل ملم وعارف بمشاكل وأزمات المنطقة وبيئتها السياسية والاجتماعية والثقافية، محايد ومنهجي بطبيعة عقله العلمي وتكوينه الثقافي، ما جعله يُختار مراراً كمستشار لمنظمات دولية كبرى فيما يخص قضايا العرب والشرق الأوسط خصوصا، والأهم من ذلك هو مثقف كبير وأشفق عليه لأنه سيضطر للتعامل مع مجمع الجهلة، ممن يسمون أنفسهم أطراف الأزمة في ليبيا، إلا القلة القليلة منهم والذي أتمنى أن يجدوا فرصتهم للحديث معه حين يبدأ زحام الأدعياء وأصحاب المصالح الخاصة الذي كان يسد الأفق أمام كل مبعوث للأمم المتحدة.
من منطلق متابعتي للشأن الليبي منذ عقود بالقراءة والكتابة والمشاركة في الندوات، وعملي الصحفي، ومعرفتي بالتاريخ الليبي السياسي والاجتماعي إلى حد ما، ومشاركتي ضمن فريق “مشروع ليبيا 2025 رؤية استشرافية” بإشراف الدكتور محمود جبريل، رئيس مجلس التخطيط الوطني آنذاك ، ومتابعتي الدائبة لكل ما حدث ويحدث منذ انطلاق انتفاضة فبراير وحتى الآن، أحاول أن أبدي ـ كأي ليبي يتألم مما آل إليه حال بلاده ـ بعض الملاحظات التي لا أعرف إذا كانت ستصله أم لا؟ لكن هذا ما يمليه علي ضميري كمواطن اختار الكتابة وسيلته للتعبير عن رأيه.
اعتقد أنه وبعد هذا التلاعب بمصير الأمة الليبية من قبل المستفيدين من الفوضى، وبعد هذا العناد والتعنت المجاني ، حان الوقت لمنظمة الأمم المتحدة أن تكون وصيا، بدل أن تكون وسيطا، على هذا المجتمع الذي يمر بمرحلة خطرة لا تهدد أمنه وقوته فقط ولكن تهدد وجوده، خصوصا بعد أن عجز من تصدروا المشهد لإيجاد أي مخرج آمن من الأزمة، أو لحل أية مشكلة يعاني منها المواطن في حياته المعيشية، ووضعوا البلاد على عتبة أن تكون دولة فاشلة. وهو الدور الوصائي نفسه التي قامت به المنظمة بعد الاستقلال ونجحت فيه بامتياز.
أما من يمضغون عبارات مثل، السيادة الوطنية، أو عدم التدخل في الشؤون الداخلية، أو رفض وصاية المجتمع الدولي، وغيرها من الشعارات المضللة، فأقول لهم أن ليبيا عضو في منظمة الأمم المتحدة، وأنها قانونيا مازالت تحت الباب السابع وقرار حماية المدنيين الصادر عن مجلس الأمن، وأن من حق المنظمة أن تتدخل قانونيا وإنسانياً في شؤون أية دولة لا تستطيع حل مشاكلها بنفسها، أو يتصدر مشهدها مجموعة من الأفاقين والمجرمين الذي يعيثون خرابا فيها ويرهبون مواطنيها ويجعلونها مصدر خطر لدول الجوار والمجتمع الدولي عموماً. بمعنى أنه لو أخلصنا لوطننا، واخترنا الكفاءات الوطنية لإدارة الأزمة، وتوافقنا وحللنا مشاكلنا بأنفسنا، لما كان للمنظمة والمجتمع الدولي أن يتدخل في شأننا إلا من باب التعاون والدعم الخبراتي، وهي المنظمة التي لديها من الأزمات ما يكفيها قرنا .
وبناءً عليه ساقترح ملاحظاتي من خلال ثلاثة مداخل : المنطلقات ، التحديات ، الآليات .
أولاً ـ منطلقات :
1 ـ ليبيا كيان اجتماعي أكثر منه سياسيا، ويشكل فيه البعد الاجتماعي قاعدة مهمة للبناء السياسي، فيما يخص المصالحة، وهو واقع متجذر تاريخيا وجغرافياً، تعامل معه الاحتلال التركي، والإيطالي، والفترة الملكية ،والنظام السابق. والانقسامات التي تحدث الآن في ليبيا انقسامات مصلحية وأيديولوجية تغذيها أطراف خارجية وداخلية وليست انقسامات اجتماعية بالمعني الدقيق وإن استغل بعض الساسة هذه القوة الاجتماعية لخدمة أجنداتهم .
2 ـ عدم المراهنة على التيارات التي تضع نفسها تحت مسمى “الإسلام السياسي” أو الإسلام المعتدل، لأنها غير مقبولة في الشارع الليبي ، وخسرت ثلاث انتخابات متتالية أكدت رفض الشارع لها، وخطأ المبعوثين السابقين أنهم أعطوها حجما أكبر منها بسبب نفوذها الناتج عن حيازة الأرض عبر الميليشيات المسلحة، وعبر ما تتلقاه من دعم مالي ولوجستي من قوى إقليمية تشاركها الأيديولوجية أو المصلحة، وليس عن قاعدة شعبية مهمة على الأرض .
3 ـ طبيعة الشخصية الليبية ميالة للتفاوض المباشر أكثر من الحوار، وخبرتها في الحلول الاجتماعية لمسائل خلافها تشي بأن المواجهة وجها لوجه أكثر فاعلية في تضييق الهوة، و في تقديم التنازلات المتبادلة، ودفع سوء الفهم والأحكام المسبقة أو الغيابية.
4 ـ الحفاظ على المسار السياسي الذي بدأ منذ انتخابات 7 يوليو 2012 وما تمخض عنه وعن الانتخابات اللاحقة من سلطات تشريعية هي امتداد له، يشكل ركيزة مهمة للحفاظ على مبدأ الشرعية، ولبناء أية آلية لتفكيك الأزمة والشروع في استمرار أساسيات الدولة المدنية ومتطلباتها، ويلقى هذا المسار تأييدا واسعا من قطاع كبير من النخبة والشارع الليبي.
5 ـ كل المبادرات السابقة ظلت حبرا على ورق، وحتى إن لاقت توافقا دوليا كان يعوزها التوافق الوطني ، والسبب عدم إعطاء الأولوية للمصالحة الوطنية من قبل البعثات السابقة.
6 ـ بناء وتوحيد المؤسسات العسكرية والأمنية تشكل ضرورة وأولوية لدى الرأي العام، ومعادوها قلة لكنهم يتمتعون بإمكانات مادية وتنظيمية عكس الأغلبية غير المنظمة، وفكرة ترويج أن ليبيا لم يكن فيها جيش وطني أو مؤسسات أمنية وقضائية إبان النظام فكرة خاطئة روج لها المتضررون، خارجياً وداخلياً، من عودة هذه الأجهزة.
7 ـ ما حدث من فوضى في ليبيا بسبب قرار صادر من مجلس الأمن، وبما أن ليبيا مازالت تحت الباب السابع، لابد من جعل دور هذا المجلس أكثر جدية وفاعلية، من أجل انصياع الأطراف المعرقلة للتوافق وإذعانها للترتيبات التي يراها المجتمع الدولي وفق الثوابت المتعلقة بوحدة الكيان الليبي ، والحفاظ على المسار السياسي وامتداد الشرعية، والحفاظ على المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية التي أعيد بنائها.
ثانيا ـ تحديات:
1 ـ لعب الإعلام الرديء أو المأجور، ومواقع التواصل الاجتماعي، دورا رئيسيا في خلق الهوة بين أطراف الصراع ومكونات المجتمع، وفي خلق الانطباعات الخاطئة، وهذا الدور الإعلامي جديد على المجتمع الذي تعود على اللقاء المباشر في حل مشكلاته، وهو دور سلبي أسهم بشكل واضح في عرقلة جهود البعثات المتتالية وتسفيهها.
2 ـ الصراع في حقيقته صراع على السلطة في كيان لا دولة فيه تقريبا، ووفق هذا النزوع كان جل الحوار، وما تمخض عنه من اتفاقات، تفاوضا حول تقاسم السلطة بين الأطراف المشاركة، وليس حول بناء الدولة أو اقتراح مخارج للمختنقات التي يمر بها المجتمع بشكل حاد، وساهم تبني المبعوثين السابقين لنهج الإغراءات بالمناصب والرشوة السياسية في الوصول بالحوار إلى طريق مسدود.
4 ـ استمرار تطفل بعض الأجندات الدولية والإقليمية المتسربة من خلال الصدوع الاجتماعية والجهوية التي برزت بعد سقوط النظام السابق، وهذا التدخل من قبل أطراف خارجية تسعى لمصالحها الشخصية وسع من حجم هذه الصدوع بدل أن يعمل على ترميمها.
5 ـ الإرث الذي تركته السنوات الأخيرة بين مكونات الشعب الليبي ، ومشاعر الكراهية التي تفتقت بين الأقاليم وبين المكونات في الإقليم الواحد أدى إلى انعدام ثقة بين أطراف الصراع في ليبيا.
6 ـ ثمة هواجس شعبية ذات تأثير تتعلق بالتهميش فيما يخص أقاليم ليبيا، خصوصا في الشرق الليبي، وهذه الهواجس تحولت لدى الكثيرين إلى مشاعر سلبية ، ويجب التعامل مع هذا الواقع والتخفيف من حدة المركزية في العاصمة الذي تعامل بها مبعوثو المنظمة السابقون والبعثات الدبلوماسية بشكل زاد من حدة الاحتقان.
7 ـ انتشار السلاح لدى التشكيلات غير الشرعية ولدى القبائل والأفراد، إضافة إلى انتشار المجموعات الإرهابية التي من ناحية تهدد الاستقرار، وتستغل كذريعة لتدخلات دولية مباشرة أو ذريعة لعودة الاستبداد وقفل طريق المسار السياسي بحجة محاربة الإرهاب وتوفير الأمن للمواطن من ناحية أخرى.
8 ـ ثمة عدد لا يستهان به ممن يتصدرون المشهد ومستفيدون من هذه الأزمة ، يتمتعون بنفوذ داخلي أو دعم خارجي، ويقفون عقبة أمام أي مبادرة للتوافق وأمام جهود بعثات الأمم المتحدة المتتابعة .
9 ـ تورمت الأزمة وزادت الانقسامات للدرجة التي تحولت فيها المسألة إلى صراع شخصي أكثر منه صراعا سياسيا قابلا للتنازلات المتبادلة، وأدى شخصنة الصراع كنزوع ليبي أصيل إلى نوع من العجرفة عند بعض الأطراف لدرجة أن الاحتجاج لم يكن على مصالح أو مواقف بل على أسماء بعينها والمطالبة بخروجها من المشهد.
الآليات:
أهم منعطف وصل إليه مبعوث المنظمة السابق، ويمكن الانطلاق منه هو الحوار حول التعديلات المطلوبة في اتفاق الصخيرات السياسي وتضمين هذا الاتفاق للإعلان الدستوري وتشكيل المجلس الرئاسي وحكومته وفق هذه التعديلات، وهي عملية ليست سهلة لكن وصول مبعوث جديد يتكلم نفس لغة الأطراف، وليس عليه مآخذ سابقه، ولديه معرفة بالبنية الاجتماعية والسياسية لهذه المنطقة، إضافة إلى ما وصل إليه الشارع الليبي من احتقان بسبب انسداد الأفق وضيق المعيشة، قد تسهم جميعا في تسريع وتيرة هذه العملية السياسية الحاسمة للخروج من النفق. مع ملاحظة أن عدم اكتمال شرعية المجلس الرئاسي الدستورية تسبب في ضعفه، وإضفاء الشرعية عليه سيجعله أكثر قوة وأكثر جاذبية للأطراف المعرقلة من اجل الانضواء تحت مظلته حماية لها، خصوصا في العاصمة والمنطقة الغربية عموما.
وتحتاج هذه العملية إلى آليات موازية ستشكل مناخا ملائما لتقدمها من ناحية، وضغطا اجتماعيا على الأطراف المتعصبة لمواقفها، أو بالأحرى مصالحها الشخصية، على حساب المواطن من ناحية أخرى، وتتمثل هذه الآليات في:
1 ـ اقتراح مسارين منفصلين ومتوازيين للحوار والتفاوض، المسار السياسي ممثلا بالأجساد السياسية القائمة، ومسار أمني منفصل عنه ممثلا بقيادات الجيش، وقيادات الأجهزة الأمنية في مناطق ليبيا المختلفة، وتحاشي دمج السياسيين والعسكريين في حوار مشترك، حفاظا على المسار المدني من التدخل العسكري، وحفاظا على المؤسسات العسكرية والأمنية من التلاعب السياسي.
2 ـ رسم رؤية شاملة للشروع العملي في برنامج المصالحة الوطنية بإسهام القوى الاجتماعية ومجالس الأعيان والحكماء ولجان المصالحة، وتتطلب هذه الرؤية صياغة ميثاق وطني اجتماعي تنطلق بنوده من تجارب ليبية سابقة في مواثيق المصالحة برزت بعد خروج الفاشية الإيطالية وما تركته من مشاعر سلبية بين مكونات المجتمع التي انقسمت بين مقاوم ومتواطئ مع الاحتلال (وكان لوجهاء القبائل وأعيان المدن دور مهم وحاسم في رأب هذه الصدوع وتوفير المناخ الملائم لعمل أول بعثة للأمم المتحدة بعد الاستقلال) .
3 ـ الحفاظ على ما تم إنجازه من إعادة بناء لهذه المؤسسات هام جدا مع العمل بخلق حوار بين ممثليها من الرتب الكبيرة في مناطق ليبيا المختلفة ،موازيا للتفاوض السياسي، وهو شأن يحتاج إلى لجان مصالحة خاصة أيضا من الممكن للحكماء والأعيان والمشايخ أن يلعبوا فيها دورا مهما لاعتبارات تخص طبيعة هذا المجتمع كما أسلفت، ولكون العديد من الفاعلين في هذه القيادات العسكرية مدعومين قبليا، وهذا واقع لا يمكن تجاهله أو القفز فوقه.
4 ـ إشراك كل مناطق ليبيا أو أقاليمها عضويا ومكانيا للاجتماعات في الإجراءات التي تقترحها بعثة الأمم المتحدة للتخفيف من هواجس المركزية والتهميش والانحياز التي تعزز من فقدان الثقة بين الأطراف وتقف عائقا أمام التوافق. جمع الأطراف داخل الأرض الليبية ووجها لوجه مهما كانت الصعوبة يشكل طريقا عمليا لبناء جسور الثقة من جديد والوصول إلى نتائج ملموسة.
5 ـ التركيز على الأطراف التي يتأتى نفوذها من وجود قاعدة شعبية عريضة داعمة لها وليس على الأطراف المتأتي نفوذها من أذرعها المسلحة غير الشرعية أو من دعمها من قبل أطراف إقليمية، وهي في الواقع لا تملك أية قاعدة شعبية على الأرض، وتحاشي سياسة الأمر الواقع التي أعطاها المبعوثون السابقون أكبر من حجمها. وهذه الأطراف معروفة من خلال نتائج ثلاثة انتخابات، ومن خلال تقارير المبعوثين السابقين .
6 ـ تفعيل مشروع للعدالة الانتقالية فيما يخص مخالفات وجرائم ما بعد فبراير على أن يشمل هذا المشروع تحويل من ثبت عليهم ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو يؤججون الفتن عبر وسائل الإعلام أو يحرضون على العنف عبر الفتاوى الدينية ـ ومازالوا بحكم هذا التورط يعرقلون التوافق وبناء الدولة ـ إلى المحكمة الدولية، مع التلويح لهم بأن المخرج الوحيد المتاح هو الخروج من الأزمة وتوحيد البلد تحت السلطات الشرعية من أجل تهيئة مناخ ملائم لتفعيل قانون العفو العام الصادر عن مجلس النواب عبر قنوات وسلطات شرعية .
7 ـ استثمار وجود ليبيا تحت الباب السابع وقرار حماية المدنيين من أجل جمع السلاح المتواجد خارج الشرعية، وإعطاء أمد محدد لتفكيك التشكيلات المسلحة غير القانونية ، يترتب على تجاوزه إجراءات صارمة وفق تطبيق قرار حماية المدنيين (مع ملاحظة أن السلاح المتوسط والثقيل في الشرق الليبي يقع تحت قيادة عسكرية موحدة ، بينما المشكلة تستفحل في مناطق الغرب الليبي وبعض مناطق الجنوب التي تعاني من انتشار مئات التشكيلات التي تدين بولائها لأشخاص مدعومين من جهات إقليمية ومن رجال أعمال ليبيين).
8 ـ يحتاج كل هذا الجهد لمحاولة جمع أطراف الأزمة وتخفيف الاحتقان الشعبي إلى إجراءات اقتصادية عاجلة لتحسين أوضاع المواطنين المعيشية قد يسهم فيه خبراء من الأمم المتحدة بدور مهم، كما تحتاج هذه الجهود إلى عمل مضني في الغرف المغلقة والابتعاد عن التصريحات الغزيرة أو التغريدات من قبل البعثة، إلا بعد الوصول إلى نتائج حقيقية وملزمة وعبر عقد مؤتمرات صحفية رسمية فقط، وقد أسهمت هذه التصريحات والتغريدات المتوالية سابقا في التشويش على الجهد المبذول عبر نزعها من سياقاتها واستغلالها للتأجيج من قبل القوى المشككة في دور المنظمة.