رسالة إلى الليبيين من مستبد محتمل
سالم العوكلي
سأحكي خرافة لعل فيها عبرة أو طرافة، ومبدأ هذه الحكاية المفترضة أو الخرافة حلم رأيته في ليلة ليست بعيدة، حلم بمعنى حلم نائم وليس حلم يقظة ولا يمت بصلة لمفهوم الأحلام التي نتغنى بها، ليست رؤية يمكن أن نجد لها تفسيرا عند ابن سيرين أو في أحد مواقع الإنترنت المهتمة بشؤون الشعوذة والتي تجد إقبالا كبيرا لأن الإنسان مهووس بمحاولة التنبؤ بمستقبله منذ القدم. رأيت فيما يرى النائم أني مرشح لمنصب الرئاسة في ليبيا، ولم أتبين ما إذا كنت رشحت نفسي أم رشحني آخرون لهوىً في أنفسهم، كان بيتي مكتظا بالناس وثمة مسلحون منتشرون أمامه ببنادقهم افترض الآن وأنا مستيقظ أنهم حراس للمرشح الذي دخل دائرة الاستهداف، كما رأيت ملصقات دعائية في الخارج تحمل صورة لي وأنا شاب، مبتسم بلحية سوداء مهذبة، وبيتي يعج بالضيوف، بعض من أصدقائي الكتاب والمثقفين الذين يتداولون حوارات بينهم، وبعض من أقاربي أو رجال قبيلتي الذين عُرفوا بخبرتهم في الكولسة أيام التصعيد الجماهيري، وبعض وجوه غريبة أراها لأول مرة، ويبدو أن لكل منهم غاية ما من وراء ترشيحي ودعمي، والغريب أن هذا الحشد كان كله من الذكور ولم أر أية امرأة حاضرة.
في خضم هذا الهرج والمرج كنت أحس بخوف مما ينتظرني ومازال الزهد في المناصب أو الخوف منها يعكر علي صفو اللحظة الفارقة، والآخرون لا أحد منهم يلتفت إلي أو يتحدث معي، جميعهم يتحرك بسرعة من مكان إلى مكان أو يتجادلون بينهم في زوايا البيت المحتشد. في هذا الخضم صحوت لأجد نفسي نائما بقرب التلفزيون ويبدو أن الهرج في المنام كان يتسرب من إحدى القنوات الإخبارية التي أخذني النوم وأنا أتابعها.
وفي المساء وأنا استعيد وقائع هذا المنام الطريف خطرت ببالي فكرة أن أكمل حلم النوم المبتسر بأحلام يقظة تجعله يذهب إلى مداه، ولم لا؟ فأنا مواطن ليبي ومن حقي أن أرشح نفسي لأعلى منصب في الدولة، أما ما يستلزمه هذا الترشح فسيقوم به آخرون على أكمل وجه وسيحررون لي سيرة خبراتية في حزمة أوراق كما حدث مثلا في حكومة الكيب أو زيدان ، بعض منها حقيقي والكثير مفبرك أو مؤلف، ومن طبائع الحملات الدعائية أن تتخيل وتؤلف، ومن هؤلاء الذين رأوا لهم مصلحة وقدموني كمهندس زراعي تخرج بتفوق له خبرة أكثر من 30 عاما (رغم أني لم أعمل في هذا القطاع إلا سنوات محدودة وتقريبا نسيت كل ما درسته)، وبعض يقدمني على أني كاتب ملتزم مؤمن بحقوق الإنسان والديمقراطية وحقوق المواطنة وغيرها مما ثرثرت حوله في كتاباتي السابقة، كما أني أكتب القصيدة النثرية الحديثة، والتي رغم أن لا أحد يفهمها من الناخبين المحتملين، إلا أنها تشي بأني سأكون مع الحداثة والتحديث وضرب القوالب التقليدية السابقة، وهذا ما سيتبناه صديق ناقد أدبي التحق بحملتي، سيتحدثون عن نزاهتي وأني لم يسبق لي أن اختلست أو سرقت أو هلتُّ درهما من المال العام (وأنا شخصيا لست متأكد من هذه النزاهة لأني لم أتعرض لاختبار حقيقي) ولكن ستبقى نقطة في صالحي في خضم الفساد الذي تفشى منذ عقود، البعض سيذهب إلى مشاركتي ضمن فريق رؤية ليبيا 2025 وأن هذا قد يضيف إلى معرفتي بما تريده ليبيا (رغم أن مهندسها الحقيقي د. محمود جبريل أقصي من المشهد رغم فوزه بالانتخابات الأولى بتهمة العلمانية أحيانا أو بسبب كونه ورفليا أو لأنه لم يكن على رأس ميليشيا).
صحيح أن لا سابق خبرة لي في العمل السياسي أو الإداري، ولا حصيلة معرفية لي بالقانون أو الدبلوماسية، ومازلت لا أجيد المشي على فرش مصنع بن وليد حتى أمشي على فرش أحمر، ولكن ألم يصل في ليبيا إلى أعلى المناصب أناس لم نتوقعهم حتى في أحلامنا أو هترساتنا، ألم يتربع على سدة سلطات عليا أناس لا يستطيعون حتى إدارة مدرسة ابتدائية في قرية صغيرة ؟ بعد أن ملأنا عصر الجماهير باستراتيجية الجمهرة وبأن الكفاءة والخبرة والجدارة مفردات أفرزتها النظم البيروقراطية العتيقة. ستتضافر عوامل عدة وتتقدم حملتي بثبات ضد مرشحين آخرين لا يزيدون عني بشيء وربما ينقصون بأشياء، ولن يعكر صفو حملتي سوى جيوش إلكترونية ممولة من قبل حملات الآخرين ضدي ، سيكتبون عني أني شاعر إباحي لا التزم بأخلاق وتقاليد المجتمع ولن تنقصهم الشواهد، أو أحد خلايا العلمانية النائمة، ولن يعدموا اقتباسات من كتاباتي التي تهاجم تسييس الدين أو تنتصر للعقل العلمي، والبعض الذي يجيد الضرب تحت الحزام سيقول عني أني جهوي وقبلي مستشهدا بقصيدة غزل كتبتها عن بنغازي يوما ما أو إشارة دونتها عن معتقلات الفاشية في برقة، كاتب مثلي انضم إلى حملة منافس سيكتب أني حاصل على جائزة الفاتح التشجيعية في الشعر مع أنه كان معي في القائمة، أو أن ابن عمي له ابن خالة خاله له ابن كان يدرس مع فلان الذي انضم إلى داعش، وبعض سيقول أن له علاقات مع دوائر خارجية مستغلا مقالة كتبتها عن المواطنة العالمية وعن انحسار مفاهيم السيادة الوطنية إلى آخر هرطقاتي السابقة التي ما كنت كتبتها لو عرفت أن صوري ستكون يوما منتشرة على أعمدة الكهرباء المائلة في شوارع الوطن.
سأشطح في حلم اليقظة وأعلن فوزي بالانتخابات الرئاسية كأول رئيس مدني منتخب في تاريخ ليبيا، وستطغى في الأشرطة الحمراء أسفل الشاشات أخبار عاجلة تقول: شاعر يتقلد سدة الحكم في ليبيا. مهندس زراعي فاشل يصل إلى القصر الرئاسي في ليبيا (لا أعرف إذا ما كان ثمة قصر رئاسي في ليبيا أم سيكون أول مشاريعي في البنية التحتية)، آخرون يصطادون في الماء العكر سيكتبون: العلمانيون ينتصرون في الانتخابات الليبية (أنا شخصيا لا علم لي بالعلمانية المتهم بها) لكن طالما تحدثت في مقالات سابقة عن العلم فانا علماني بالضرورة . لا يهمني كل ذلك فأنا أصبحت رئيسا شرعيا لدولة ليبيا أو الجمهورية الليبية أو لا أعرف ما سيكون اسمها، وتحول رجال حملتي (ليس بينهم نساء مثلما في المنام) إلى حاشيتي وطغمتي، لكني مازلت كلما أردت الركوب في سيارة المراسم الفارهة أمد يدي لأفتح الباب فتسبقني يد أخرى بها خاتم ضخم منبثقة عن كم مُنشّأ تبرز منه حلقة بيضاء من قميص حريري.
الجميع مطمئن، أصدقائي الصحفيون والكتاب يجهزون لمشاريع صحف مستقلة أو دور نشر أو مهرجانات عالمية، وأصدقائي المسرحيون يتجهزون لإنجاز أعمال مسرحية ضخمة، أحد أصدقائي المعاكيس يبعث لي برسالة يرجوني فيها أن ألغي قرار منع الخمور الذي أصدره مجلس قيادة الثورة، ونقابة المهندسين الزراعيين تنتظر دعما منقطع النظير، وأبناء قبيلتي الذين لا أعرف منهم الكثير يبحثون عن رقم هاتفي الذي يتغير باستمرار، وصفحتي على الفيس بوك قفلتها وحلت محلها صفحة باسم (فخامة الرئيس الليبي المنتخب) لها فريق من المحررين الذي يجعلون من الحبة قبة ومن الزبيبة مصنع نبيذ.
الجميع مطمئن لأن الرئيس كاتب؛ ومثقف؛ وشاعر قصيدة نثرية، معروف عنه زهده في الكراسي ما عدا كراسي الآرجيلة، لذلك سيُسلم السلطة بشكل سلس بمجرد نهاية ولايته أو ولايتيه حسب ما ينص عليه الدستور (طبعا الدستور الموجود الآن لدى البرلمان كارثة بكل معنى الكلمة ومملوء بالثغرات بل الفتحات الكبيرة الصالحة لتشييد منظومة استبداد جديدة ميزتها أن مرت عبر الصندوق) فأنا فعلا أؤمن بالحريات (سيكون هذا محل اهتمامي في بداياتي الأولى فقط) لكن كلما أصدرت قرارا يتعلق بالحريات ستحبطه إحدى المواد المحصنة في الدستور التي تقول إن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع. وستظل الحريات تراوح في مكانها وتصطدم كل مرة بهذا الجدار المتين والمحصن داخل الدستور . مع الوقت، وما أجمله من وقت، بدأت لذة السلطة ورعشتها اللذيذة تتسرب في خلاياي ودمي، والحاشية بدأت تملك نفوذا قويا ولها مصالح مرتبطة بشخصي طالما أنا في سدة الحكم، لذلك بعد تمكنهم من مفاصل الدولة سينجحون في حملة فوزي في الفترة الثانية (المصروف عليها من أموال الدولة) والمفترض أن تكون الأخيرة وحين تقترب من نهايتها ستصاب الحاشية بالرعب، وأنا أيضا سأصاب بالذعر لأني ما عدت أتصور نفسي خارج هذا القصر الذي شيدته على مزاجي، ولن أقبل تسمية “الرئيس السابق” المهينة، خصوصا أني ارتكبت أخطاء فادحة وأغراني شيطان السلطة بمخالفات كثيرة، وحاشيتي تورطت في جرائم ضد القانون واستغلال للوظيفة والنفوذ، لذلك خروجي أو خروجنا من دائرة الحصانة سيعرضني ويعرضنا جميعا للخطر، وهنا تبدأ عملية النظر في تعديل الدستور، وميزة دستورنا الموجود الآن في البرلمان في انتظار الاستفتاء عليه أنه مرن ومليء بالثغرات التي حان وقتها. بحجة إكمال برامجي ومشاريعي الضخمة سأدعو لتعديل الدستور والتمديد، أو بحجة الحرب على الإرهاب وتعرض الأمن القومي للخطر، وعموما سأدرس أو بالأحرى ستدرس حاشيتي تجارب وخبرة المنطقة السابقة في مثل هذه التعديلات، حاشيتي ستقنعني بتفعيل قانون الطوارئ بسبب ما تتعرض له البلاد من مخاطر داخلية وخارجية (ومن السهل تعديل الدستور في ظل قانون الطوارئ) وليس من الصعب أن تقنع الآخرين بأن الخطر موجود وأن قطار الموت قادم، خصوصا أن الآخرين أصبح مطلبهم الرئيسي الاستقرار والأمن أما الحريات فهي مطلب نخبوي، وهذه النخب المزعجة كفيل بها، سأبعث بعضهم للعمل الدبلوماسي في عملية نفي مهذبة، وسأقلد بعضهم مناصب في مؤسسات الثفافة والفنون، وسأشجع البعض للاندماج في مشاريع تجارية، أما القلة العنيدة (مثل أحمد الفيتوري أو عمر الككلي) سأتكفل بهم بطرق أخرى.
ستدين بعض الدول الحرة والمجتمع الدولي اختراقي للدستور وانتهاكي لحقوق الإنسان مثلما يفعلون الآن، لكن دعمهم الخفي لنظامي لن يتوقف طالما أحقق مصالحهم، سألومهم على ما يقولونه عني لكن سيقنعني دبلوماسيوهم أن هذا الكلام من أجل الرأي العام في بلدانهم الحرة لكنهم معي قلبا وقالبا كما يحدث مع كل الدكتاتوريات السابقة والراهنة واللاحقة.
لن أشطح كثيرا، لكن رسالتي لليبيين أن لا تثقوا في أحد حتى ولو كان شاعرا رومانسيا وزاهدا سابقا في المناصب والسلطة، فكل مرشح رئاسي هو مشروع مستبد، ولن يوقف مشروعه إلا دستور يضمن شكل الدولة وشكل الحكم وفصل السلطات بمواد محصنة ولا يمكن تعديلها لأجل غير مسمى، ولن يتوقف مشروعه إلا بوعي الشارع والتيارات المدنية التي يجب أن تملأ الميادين وأن تُصعد للعصيان المدني ولكل الأساليب السلمية ضد أي محاولة للمس بالدستور أو التمديد تحت أي ذريعة، لابد للقضاء أن يكون سلطة مستقلة وبالتالي إذا ما حاول الرئيس وطغمته تعديل الدستور (في صالح الحاكم وليس الناخب) سينطلق مواطن من قرية القرضبة أو نسمة أو غات متأبطا أوراقه صوب المحكمة الدستورية العليا في ليبيا ويطعن في القرار ويلغيه دستوريا .
رسالتي لليبيين: أن القوة تكمن فينا حين نتحول إلى قوى مدنية فاعلة، أحزاب معارضة وجمعيات ونقابات واتحادات ومواقع تواصل قادرة على أن تقفل شوارع المدن في أي وقت إذا ما شمت رائحة عودة الاستبداد، أما إذا قررنا العودة إلى أقفاص العبودية تحت أي ذريعة، فهؤلاء نحن وهذا ما نستحقه .
نسيت أن أقول أني ما رأيته في منامي من مشاهد ترشحي للرئاسة لم يكن حلما ولكنه كان كابوسا صحوت منه مذعورا.