رحمة الله على الشهيدة شيرين
سالم العوكلي
بعد ربع قرن من رواية قصص التراجيديا الفلسطينية، سقطت الصحفية شيرين أبوعاقلة على وجهها الوضاء جراء رصاصة قناص إسرائيلي نازي، وكأنها بسقوطها على وجهها تحضن وتُقبّل الأرض التي عشقتها قبلتها الأخيرة.
من الوارد، بل من الطبيعي أن تتوجه رصاصة من قاتلي الأطفال وقاتلي محمد الدرة وهو في حضن والده إلى رأس شيرين ودماغها الذي أقلق الدولة النازية بفضح جرائمها، عبر صوتها الهادئ ولباقتها ودقة اختيارها للجمل التي تروي سيرة ضحايا الاحتلال، لكن ليس وارداً أو طبيعياً أن ينهال عليها بعد استشهادها هذا الوابل من رصاص قومها الأعمى الذين حذروا من الترحم عليها، وهو تحذير أشد قسوة من كل تصريحات الصهاينة المتطرفين الذين هللوا لقتلها، بل هي فتاوى مشبوهة جعلت ضمير الإسرائيليين مرتاحاً حيال هذه الجريمة طالما قتلوا كافرة كما يقول المقربون منها والذين تدافع عنهم.
ونحمد الله أن رحمته وسعت كل شيء، وليست في متناول هؤلاء الهراطقة الذين يعتقدون أنهم يحتكرون رحمة الله أو حراس عليها، وحين نقول (كل شيء) فإن هذه الرحمة الواسعة لا تستثني شيئاً، من بشر ومن كائنات تشاركه الحياة في هذه الكوكب، وربما حيوات أخرى في كواكب أخرى تبعد عنا ملايين السنوات الضوئية.
نرى الآن في العالم الحديث الذي أصبح ينشئ مؤسسات لإدارة الرحمة، كيف ترفق هذه المؤسسات وناشطوها بكل ما يدب فوق الأرض، وحتى الزواحف؛ التي نعتقد أنها مؤذية وضارة ونسحقها كلما قابلتنا، يدافعون عنها لأنها تستحق الرحمة، ووجودنا مرتبط بوجودها. نعم ما سكتت عنه الأديان من قيم تُرك شأنه للتحضر البشري والترقي الإنساني، فكل الأديان لا تُحرّم العبودية والرق، وليس هناك شيء حدث فوق الأرض أبشع مِن أن يباع البشر في أسواق النخاسة التي رافقت كل الأديان إلى أن منعها التحضر البشري وسنَّ القوانين والعقوبات ضدها، والاتفاقيات الدولية هي التي منعت تجارة الرقيق وأوقفت أسواق النخاسة التي استمرت لزمن طويل في ظل الإسلام وكل الأديان، بل أن جيوباً من مجتمعات إسلامية مازالت تمارس هذه الجريمة الشنعاء باعتبارها غير محرمة في الدين الذي تركها للتطور الحضاري، ولعل ما فعلته داعش مع غير المسلمين في العراق وسوريا من سبي للنساء وبيعهن في إعلانات تُنشر على منصات التواصل، والمتاجرة بأعضاء المسيحيين والأزيديين في الموصل، يأتي في نفس السياق، ومن نفس المنطلق الذي يُحرّم به البعض الترحم على غير المسلم. وهو منحى ينبع من رواسب من الكراهية التي تكرست عبر قرون خلال صراعات سياسية وقومية تقنعت بالدين، ولا علاقة للرحمن الرحيم به، الذي يظهره ناشرو هذه الفتاوى العنصرية كإله عنصري اختار شعبه الوحيد من المسلمين، والله الذي وسعت رحمته كل شيء أكبر من ذلك بكثير، وأكبر مما يظنون.
لو قُدّر لروح شيرين التي سقطت على أرض كم مشى عليها نبيها الذي لا يكتمل إيمان المسلم إلا بالإيمان به، وبأتباعه من أهل الكتاب الذين وردت كثير من الآيات القرآنية تطري على الصالحين منهم كما تطري آيات أخرى على الصالحين فقط من المسلمين. ومفردة الصالحين تتعلق بالسلوك والأخلاق وليس العقيدة فقط أو العبادات، فالعقيدة تختصر في صفة (المؤمن) والعبادات في (المتدين) أما الإنسان الصالح فسلوكه وأخلاقه وتسامحه وأمانته وصدقه ما تحدد هذه الصفة.
لو قُدر لروح شيرين أن تعود بعد هذا الوابل من الرصاص الذي أطلق عليها من قومها المسلمين لسامحتهم بصوتها الرخيم، لأن لب دينها هو المحبة والتسامح، مثلما كانت سيرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام أسوة للمحبة والتسامح ولعدم الجحود. طلب الرسول عليه الصلاة والسلام من صحابته أن يستغفروا للنجاشي المسيحي حين علم بوفاته وأن يصلوا عليه صلاة الغائب كما ورد في صحيح البخاري: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمُ النَّجَاشِيِّ»، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَأْمُرُنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى عِلْجٍ مِنَ الْحَبَشَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. وقد ينكر بعض المروجين للكراهية هذا الحديث لأن أي حديث يتعلق بالرحمة وبالتسامح والعرفان والمحبة لا يناسب ما يفور داخل نفوسهم من كراهية.
******************
ما حدث في فلسطين المحتلة منذ 74 عاماً، وصولاً إلى اغتيال الصحفية شيرين أبوعاقلة، وما حدث في تشييع جنازتها من ضرب للمشيعين السلميين، واعتداءٍ على جثمانها من قِبَل الجنود الصهاينة والمستوطنين، يؤكد أن، ما تُسمى (إسرائيل) العنصرية، ما هي إلا ميليشيات نازية يدعمها الغرب الديمقراطي بكل قوة، ويخبرنا التاريخ والتحليلات السيكولوجية كم تَشبّهَ الضحايا بجلاديهم. وهؤلاء من يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ويصدرون الفتاوى بتحريم الترحم على شيرين أبوعاقلة لا يختلفون عن الصهاينة المتطرفين في شيء، فكل منهم يرون أنهم شعب الله المختار، ولم يُخلق باقي البشر إلا لخدمتهم والانصياع لهم، وكل قتل وعنف تجاههم محلل وجائز، بل من صلب الإيمان.
ما تُسمى إسرائيل ستزول، مثلما زالت في التاريخ كل الفاشيات التي أخذتها العزة بالإثم لزمن لا بد أن يكون مؤقتاً، لأن الفاشية بكل أنواعها، وخصوصاً التي تستخدم الدين، ضد الشرط البشري وهي من تهلك نفسها، ولأنها أطروحة عنصرية دموية تحمل بنيوياً سُمَّها في داخلها. ومهما عمّت الفوضى، واختل ميزان القيم، ففي النهاية لن يصح إلا الصحيح، وإلا لما كنا استحقينا بشريتنا.
أما من يُقيّمون الآخرين وفق عِرقهم أو دينهم، فهم نوع من الفاشيين المحليين الصغار، مهما حاولوا أن يُقنّعوا فاشيتهم بالشعائر التي تدغدغ وجدان من على شاكلتهم.
*******************
خيول عربية أصيلة يمتطيها جنود صهاينة يهاجمون موكب تشييع شيرين أبوعاقلة. ركزتُ على هذا المشهد النشاز، حيث اليـهود تاريخياً لا صلة لهم بركوب الخيل في التراث البعيد ولا القريب، وتأملتُ في هذه الخيول؛ التي أُجبِرتْ على التطبيع مع الكيان الغاصب، وهي تهاجم أبناء جلدتها دون أن تدري، ودون أن تدري أنها تحمل على ظهورها فاشيين لا يتسقون مع نبلها وجمالها، وكأن المشهد النشاز يقول لنا، إن كل ما يحدث نشازٌ من الأساس، وإن وجود كيان ديني مصطنع نشاز، في أرض فلسطين التي اتسعت قروناً لسكانها الأصليين؛ من كنعانيين وبلستينيين ويبوسيين وفينيقيين وأموريين، ويهود أصليين قبل أن تنقل سفن المنتصرين في الحرب العالمية الثانية أفواج اليهود الأشكناز المبعدين عن أوروبا، لتوطينهم في فلسطين، وتسميتها “إسرائيل يهودية”، التي تحولت إلى دولة نازية أشد شراسة من النازية التي نكلت بهم.
رحمة الله على الشهيدة شيرين وكل شهيد كلمةِ حقٍّ في وجه سلطان جائر.