رحلة امرأة.. من سبها إلى طرابلس
فادية امعيقيل
أنتِ مرا.. شن دخلكِ وتستاهلي… هذه الكلمات وغيرها أعتدتُ سماعها منذ أن خرجت لمجتمعي في سبها تدفعني رغبة عارمة للمساهمة في بناءه ما استطعتُ إلى ذلك سبيلا، مع مرور الوقت صارت هذه العبارات محفزا لي على الاستمرار وإثبات أن امرأة من الجنوب تستطيع فعل ما لا يستطيعه بعض الرجال المؤمنين بهذه المقولات.
مطار معطل
كل تلك الأفكار كانت تدور بخلدي وأنا اعتزم السفر مع رفيقتي ثريا إلى طرابلس عبر مطار تمنهنت، لحضور ورشة تدريبية عن دور المرأة في صنع السلام، كل شيء يمضي بشكل اعتيادي، قبل أن نُفاجأ بإلغاء شركة الطيران للرحلة، صدمة وإحساس بالقهر والعجز ينتاب الجميع، هنا تظهر الفروق، فالمفترض والحالة هذه أن نعود أدراجنا إلى سبها، ولكن اعتقدت دوما أني غير كل النساء، وبالطبع سيكون قراري غيرهن، لم أتأخر في حزم أمري بالذهاب برا إلى طرابلس في باص أجرة.
سفر بري
أن تسافر عبر 750كم أمر اعتيادي في كل دول العالم، ولكنه هنا في أحيان كثيرة يعتبر مجازفة وسط طرق لا نضمن سلامتها دوما، كما إن الكثيرين يقعون فريسة جشع سائقي السيارات الذين قلما تجد أحدهم صادقا وواضحا في تعامله، زد على ذلك كوننا نساء.
رحلة مع سائق نزق
استقلينا الباص، وكان المشهد كالتالي؛ في الكرسي الأمامي شاب بجانب السائق وأنا وثريا في الكرسي الثاني أما الكرسي الثالث امرأتان إحداهن صحبة ابنها، سمعتُ أخي يوصي السائق علينا، عند الساعة التاسعة صباحا الكل مبتسم أنا وثريا، شعرنا بالارتياح تواصلنا مع المنسق وكل الأمور على ما يرام ,الصويعي : “ما انحب التدخين” الشاب في الكرسي الأمامي: (آخر سبيسي يا بو صاحب) الصويعي بصوت عال طفي ولا انزل هنا ، الكل شعر بالضيق بدأت علينا علامات الضجر شعرت أنني بفصل مدرسي مع مدرس شرير، ساد الصمت المكان قلنا بصوت واحد يا أستاذ صبح قال استغفر الله وانطلقنا من طباعي أنني عصبية لكن هذه المرة التزمت الصمت والحيادية لأني أريد الوصول في الوقت وبسلام.
أعطال وصحراء
لاحظتُ ان السيارة بطيئة؛ عادتي في السفر مراقبة عدّاد السرعة ومن سوء الحظ السائق أني خلفه مباشرة ولم أتمكن من رؤية العدّاد.
وصلنا وادي الشاطئ أخذ السائق فنجان قهوة نزل الشباب جلبوا ماء سألوا هل تريدون شيء؟ حتى وصل إليّْ، هل تريدين شيئا يا ابلة خوك وصّاني عليك؟؟ لا شكرا.
انطلقنا والسيارة لا تزال بطيئة كل السيارات تسبقنا فجأة توقفت السيارة.. ايييي (دارتها مرة ثانية) قال السائق. قلتُ لثريا سمعتي شن قال (امال السيارة خاربه ؟؟؟) ثريا(تمتلنا).. لا يا أبلات (هدي بومبة المية) وعندي بديل والامور كلها تمام عند الساعة الحادية عشر وخمسة واربعون دقيقة صباحا بعد منطقة قيرة بقليل السائق يلتفت مبتسما.. ابادله ابتسامة صفراء وانا قلقة، بعد جهد اشتغلت السيارة، انا وثريا بصمت واستغراب حدقنا انطلقنا ولكن ابطء من قبل.. الجميع شن في لا غير لازم السيارة تسخن توقفنا ثانيا… الجميع كيف هكي لا تغطية ولا لا الشمس في قلب السماء حرارة رغم برد الشتاء وبدأ الجدال بين السائق والجميع ,نحن على مشارف الغيلانية السرعة ستين استرقت ثريا النظر للعداد وكان السائق يهدأ من روع الركاب ويبعث لي نفس الابتسامة وانا اعيد نفس الابتسامة الصفراء وكأني اعتدت عليها .
انقطاع الرحلة
وصلنا الشويرف في الوقت الذي كان من المفروض ان نصل به الي طرابلس اتصل بنا المنسق: “وصلتوا” رديت ( فرقت حالنا) وشرحت له ما حدث، دخلنا الاستراحة نزلت وشربت ماء وفي نفس الوقت كنت في صراع مع نفسي ماذا افعل وأخيرا قررت قرار اعتبرته قرارا شجاعا وجريئا.. يا أستاذ ناديت لو سمحت أعطيني حقيبتي لن أكمل معك الرحلة ( كيف يا ابلة صلي على النبي ) ثريا وحتى أنا أريد حقيبتي وهنا تحول الحمل الوديع المبتسم إلى ذئب مفترس لان باقي الركاب أيضا قرروا نفس القرار وهنا كان عليه أن يرجع لنا نصف قيمة التذكرة إلا انه رفض في البداية ولكن بعد التواصل مع المحطة تراجع وأعطانا القيمة.
سمسرة وبزنس
دخلنا في الاستراحة بحقائبنا تحولنا من ركاب إلي عائلة تحمل نفس المعاناة صار بيننا رابط قوى، تعارفنا وضحكنا بصوت عال رغم المصير المجهول الذي ينتظرنا ونحن وسط الصحراء، بعد قليل عاد نفس السائق وأخبرنا بأن سيارته وقع صيانتها ويُمكن لها أن تُكْمِل رحلتنا، هل ترافقوني أجبته بالنسبة لي لا..
فقرر الفريق أن أكون الناطق الرسمي عنهم، ونزلوا أيضا عند قراري، أحسستُ وقتها أني مسئولة عن هؤلاء الركاب وفيهم الرجال، كنتُ أنا من قرر عنهم وعليَّ تحمل نتيجة هذا القرار، سمعت صوتا يناديني فادية فادية، كانت تلك عمتي برنية وهي ذاهبة أيضا لطرابلس وعرضت عليّْ أن اركب معها، ولكن لم أفكر أجبتها مباشرة أنا مع عائلتي الجديدة وسأصِلُ معهم، لم تناقشني عمتي احتضنتني وودعتني على أمل اللقاء في طرابلس، وبقيتُ أنا والركاب.
تواصلنا مع صاحب المقهى وأخبرناه بحاجتنا لسيارة تنقلنا الى طرابلس، واشترطنا باص يحمل الجميع، وهنا بدأ البزنس وضع لنا السائق الجديد قيمة تعادل قيمة الخروج من سبها لطرابلس، و قلنا له نحن ليبين وانت تعرف الظروف أيُعْقلُ أنْ تستغلنا؟!!، وهكذا حتى استسلمنا ولملمنا ما تبقى في جيوبنا وانطلقنا بعد صلاة المغرب، وهنا كانت البداية الحقيقية لرحلتنا.
لا يمكن الوصول إلى طرابلس
غادرنا الشويرف وسرعان ما حلّ الظلام، وكان السائق كثير الاتصال بالهاتف وفي منتصف الطريق قال لنا لا استطيع الدخول بكم إلى طرابلس!!! صرخ الجميع (كيف ) قال سأسلمكم إلى سيارة أخرى يمكنها الدخول في غريان فأنا لا ادخل طرابلس، قلقنا جميعا وقلنا يا رب جيب العواقب سليمة.
وصلنا غريان نزلنا كأننا ركاب هجرة غير شرعية (فروت)على حافة الطريق، ركبنا الباص الثاني وبدأنا ننظر من النوافذ فرأينا السائق يدفع ثمننا للسائق الثاني، هنا عرفت أن تجار “الفروت” لا يهمهم من الراكب بل القيمة.
انطلقنا نزلنا من جبل غريان وإذا بالسائق يقول لن نستطيع دخول طرابلس بسبب الاشتباكات، فابتسمنا من الدهشة وكأن طرابلس ترفضنا، وقام الجميع بالاتصالات إلا أن الأغلبية بدون شحن فعلا كانت هناك اشتباكات بالسبيعة وقتذاك، وهو الطريق الوحيد الآمن لطرابلس، فقلنا للسائق هل يوجد فنادق في غريان يا للهول كل شيء عاكسنا.
كرم وضيافة رغم الظروف
اعتدنا الصدمات نساء ورجالا طبعا، دخلنا مع السائق إلى غريان وهي المرة الأولى لنا جميعا بها ،وكان البرد شديد، اتجه بنا السائق إلى منزل بوابته مليئة بالرجال والأغلبية بالخارج وكأنهم ينتظروننا، عاد القلق والتوتر من جديد، وهو يبرر لنا، طلب منا النزول وترك أمتعتنا فشعرت بالخوف والمجهول، دخلنا إلى صالة كبيرة بها دورة مياه والكثير من فساتين الأفراح وكأنها معدة لنا، نطقت عيوننا جميعا وبدأت أطرافنا ترتعد، تحدث ابن السيدة وردة إحدى رفيقاتنا في الرحلة أمي ماذا تريدون العشاء فابتسمت، فساتين الأفراح عدة التزيين عشاء استقبال حافل وجدت أغطية بالجوار فتغطيت بها، هنا وقع عزل الرجال عن النساء ،فسألت الجميع عن أعمارهم؛ سألتني وردة لماذا؟ قلت لها أنا أصغركم سنا اتركوني الأخيرة، وفجأة يطرق الباب بصوت عال.
عاد السائق طالبا منا بنا الخروج، أصابني الهلع حتى نسيتُ هاتفي في تلك الحجرة، وركبنا في السيارة نساء فقط، سألنا إلي اين فقال: لا تقلقوا لن نبتعد.. مررنا في طريق مظلم؛ كنتُ اسمع تمتمة أصوات من صديقاتي، منهن من يقرأنْ الأدعية؛ وأخرى تقرأُ القران، وأنا أحاول إيجاد أي علامة دالة في الطريق، توقف بنا أمام مدخل عمارة غير مكتملة البناء، وقال انزلوا!! هنا لبرهة شعرت بتوقف دقات قلبي وكل حواسي، إلي أن أطلَّ علينا طيف طفل مبتسم، وقال السائق هذا بيتي وأطفالي، بسبب برودة الطقس وظروف العزاء التي تمر بعائلة زوجتي لم أتمكن من استقبالكم في منزلي و استقبلتكم في مزين زوجتي المتواضع، وما إن سمعت بالأمر أصرّت على استضافتكم في منزلنا.
هنا انتهت رحلتي بالتعرف على عائلة لطيفة من قلب غريان وقضاء ليلة باردة في دفء هذه العائلة التي غمرتنا بعد رحلة عذاب، ليشعشع صباح اليوم التالي، وانطلقنا إلى طرابلس التي أصبحت حلمنا وهدفنا المنشود ووصلناها بعد ساعتين.
انتهت الرحلة ولازلت أتذكر لحظات، ولكني كنت امرأة في كل تفاصيل الرحلة، تحملتُ مسئوليتي ومسئولية من تمترسوا خلفي نساء ورجالا، كنتُ امرأة قادرة على التغيير وتحمل الصِعاب، لن أنسى تلك الرحلة فقد زادت من إيماني بقوتي كامرأة.