رجل ظلم نفسه
سمير عطا الله
عاش محمد عبد الوهاب يلحن ويغني (ويمثل) ويصنع أسطورته. هو رفيق أحمد شوقي، وليس مجرد مطرب، وهو «موسيقار»، وليس «موسيقياً» عادياً، وهو سيد في المجالس، وليس مطربها. وهو عشير الملوك والأمراء والرؤساء وحامل أوسمتهم. وهو مغني القضايا الكبرى ومنشد الجيوش.
لم يكن رسم الصورة سهلاً. كان يتطلب جهداً ويتطلب نأياً عن طبيعة الحياة في الوسط الفني، وابتعاداً عن إشاعاته، وترفعاً على مغرياته. لكن هذا كان قرار «موسيقار الجيل».
وفي المقابل، كانت أم كلثوم أيضاً تحفر أسطورتها. هي ليست مطربة، بل «كوكب الشرق». وهي ليست سيدة بين السيدات، وإنما «الست». وهي لا تؤدّي حفلة مع سواها، بل وحيدة منفردة متفردة، وهي لا تُشاهَد في الوسط الفني، بل في الوسط الاجتماعي أو السياسي، وهي لا تعطي المقابلات لأي كان، بل للأساتذة، ولا يتقدم الحضور في حفلاتها سوى الكبار والمشاهير، ولا تزور البلدان إلا إذا استقبلها الرسميون.
بين 1960 و1967 نزلت الست من عليائها لتغني لملحن شبه معروف، يدعى بليغ حمدي. في أقل من عقد غنت له أجمل أغنياتها وأجمل أغنياته وبعض أجمل أغاني العرب: «حب إيه» و«أنساك» و«كل ليلة وكل يوم» و«سيرة الحب» و«بعيد عنك»، و«ألف ليلة» و«الحب كله». وغيرها.
وغيَّر بليغ حمدي أم كلثوم، وقلب أنماطها وأنغامها قبل أن يعصف عبد الوهاب بسيرتها الغنائية في مهرجانه «أنت عمري». لكن بليغ حمدي لم يهتم مرة أن يتحول إلى أسطورة. لحَّن ذات اليمين وذات الشمال، وعاش في اليمين وفي اليسار، وسلَّم نفسه «للوسط الفني» تسلياته، ولم يدرك، أو لم يرد، أن صناعة الأسطورة صعبة ومشقة. ولم يهتم أو يهمه أن موهبته نادرة في معادن الذهب. وعاش سنواته الأخيرة مهملاً كما أهمل نفسه. وفقد بغير حق، ولكن أيضاً بغير قصد من أحد، المرتبة الحقيقية التي بلغها في عالم الموسيقى.
يخطر لي ذلك دائماً لسبب «شخصي» جداً في عالم يضم الملايين. وهو أنني بدأت أحب أم كلثوم مع «أنساك»، وبعد ذلك، أصبحت أحب كل ما غنت، قبل وبعد. ولا تزال «أنت عمري» بالنسبة إليّ، أجمل أغاني العمر، إذا كان علي أن أختار أغنية واحدة، لكن في المجموع، أعتقد أن سنواتها السبع مع بليغ حمدي، هي العقد الماسي المتلاحق.
لكن بليغ فرط الماس في كل صوب. أبدع في صنعة اللحن، وأهمل موجبات الصيت، تاركاً للأيام أن تتولى عنه تعديل المراتب وتصويب القصور، لكنها، للأسف، لا تفعل ذلك دائماً.
……………………………
الشرق الأوسط