ربيع أفضل
فرج عبدالسلام
ترحل يعني..ترحل
يتطيّرُ كثيرون في بلاد العرب من مُسمّى “الربيع العربي” بعدما اقترن بكمّ هائلٍ من المآسي والخراب، فاستُبدل وصف الربيع بالخريف، وأصبحت الثورة نكبة. على ما أعلمُ، ترسّخ هذا التعبير في خمسينيات القرن الماضي من خلال الانتفاضة السلمية التي قادها الزعيم التشيكي “دوبتشيك” ضد الهيمنة السوفييتية على بلاده، وعُرفت باسم ربيع براغ، التي لم يتأخر الكرملين في قمعها بقوة وقسوة، لم تكن غريبة على ذلك النظام المستبد ومسيرته ضد حركة التاريخ. لكن لم تذهب تلك الانتفاضة سدىً، حيث يرى كثيرون أنها زرعت أسس الثورة على الاستعمار السوفييتي في دول شرق أوروبا، وأدّت في النهاية إلى تفككه وتقويض هيمنته قبل أن ينتهي القرن.
حالُ الاستبداد والقمع في بلدان العرب كان أسوأ بكثير من دول الستار الحديدي، فالذين وصلوا إلى السلطة بحجة الإصلاح والتقدم أثبتوا أنهم أسوأ من سابقيهم بمراحل، وطغت على شعوب العرب موجة قاتمة من خيبة الأمل تحوّلت إلى خنوع تام واستسلام لقَدر أحمق الخطى، حتى جاءت لحظةٌ من لحظات القدر الرهيبة، أطلقها البوعزيزي لينطلق المارد الغاضب لإعادة صياغة القوانين الظالمة الحاكمة للمجتمعات، فليس هناك إنكارٌ للأسباب الموضوعية لانطلاق تلك الثورات، لكن قوىً “داخلية” بالدرجة الأولى، تسللت بالخديعة تحت ستار الدين، مستندة إلى تاريخ وإرث ماضوي غير سويّ، أبت إلاّ أن تحوّل مسار الثورات العفوية إلى كابوس مرعب وليل حالك طويل.
ما يجري في الجزائر وفي السودان ربما يعدُّ النسخة الثانية من ربيع العرب، الذي لا يمكن نكران مبرّراتة، حيث فشلت الأنظمة البائسة (كعادتها) في قراءة أوضاع شعوبها بصورة صحيحة، ودأبت على تعزيز مقومات سلطتها، أكثر من سعيها لرفع مستوى الشعوب، وتحقيق تنميةٍ واعدة، في جوّ ديموقراطي خال من القمع.
استفادت الجموع في الجزائر والسودان من التجارب القاسية في ليبيا وسوريا واليمن، التي نجحت فيها الأنظمة الفاسدة في “عسكرة” الثورات الشعبية لتتحول في النهاية إلى حروب أهلية طاحنة، بعد أن دخل التطرف الديني والإسلام السياسي على الخط بكل قوتهما. ولم يخلُ الأمرُ من تدخّلات أطراف خارجية في وقتٍ لاحق، عندما رأت الفرصة سانحة لتحقيق مصالحها. لكن النظام في الجزائر فوجئ بإصرار الحراك الشعبي على سلميته، وبالتالي جرّده من مبرّراته باستخدام القوة، كما حدث في ليبيانا، عندما لم يستوعب المستبدُّ أنّ وقت رحيله قد حان، وأصرّ على استخدام القوة لتحقيق مقولة “إمّا أن أحكمكم أو أقتلكم” لتدخل البلاد في نفق مظلم لم تخرج منه حتى الآن، ولا يبدو أنها ستخرجُ قريبا، فتخريب البلاد والعقول الذي استطال لأربعة عقود، ما يزال هو اللاعب القوي على الأرض.
الذي لا شكّ فيه أنّ الخيبات التي برزت في مرحلة ما بعد ثورات الربيع عزّزت حجّة الأنظمة الاستبدادية التي ناوأتها لأسباب عديدة، ولكنها أكّدت أيضا بؤس بعض هذه الأنظمة، وعدم إمكانية التخلص منها إلا بالثورة عليها. فها هو النظام السوري يصر على إعادة نصب أصنامٍ لأب الدكتاتور الحالي في المدن المحاطة بالبؤس والدمار التي انتصر عليها.
الجديدُ في حراكَي الجزائر والسودان أنّ النظام والشعب تعلّما من الدروس القاسية للتجارب القريبة السابقة. ومع أن شعار “إسقاط النظام” كان حاضرا بقوّة، إلاَ أنه تزامن مع مطالب تؤكّد وعي الحراك بأهمية الحفاظ على الدولة والدفاع عنها، وتطرح بديهية ترهّل النظامَين وعدم قدرتهما على الإصلاح. وفي جميع الأحوال لا يستطيع النظامُ البقاء بمجرّد التخويف من عناصر خارجية مندسة تحيك المؤامرات، وأن بديله سيكون الفوضى، كما سمعنا في حالتي الجزائر والسودان، وفي ليبيا كما جاء في خطاب “سيف ابن أبيه” الشهير.
لقد صبرت الشعوب وانتظرت طويلاً على أنظمةٍ لا تملك رهانا على مستقبل أفضل لبلدانها.. وفي النهاية كان لا بد من رفع شعار “تسقط بس” و “ترحل يعني ترحل” التي ستكون شعارا للمرحلة القادمة، فالربيع متجدّدٌ دائما.